اخر المواضيع في المدونة

الأحد، 30 يوليو 2017

خواطر بالاسود والابيض - حكاياتي مع البدلات والخياطين

نشأنا نحن جيل خمسينات وستينات القرن الماضي ونحن نرتدي الملابس التي يلبسها الكبار منذ ان نصبح بأعمار غضة . انا كولد صغير دأبت على ارتداء البدلة الرجالية من صغري , ولا زلت لحد الان اذكر البدلات التي لبستها في مقتبل عمري . المهم بهذا الموضوع ان البدلات التي كنا نلبسها كانت تعد وتخاط من قبل الخياطين المحليين اذ لم نعرف البدلات الحاضرة الا بالنصف الثاني من عقد السبعينات حين قامت محلات اورزدي باك باستيراد البدلات الرجالية ذات الماركات العالمية على أوسع نطاق ووفرتها لعامة الناس باسعار معقولة ومقدور عليها .
اول بدلة مخيطة ارتديتها في حياتي كانت حين كنت بالصف الخامس ابتدائي وكان قماشها بلون فستقي منقط . كنت في حينها بالبصرة وقد خيط لي تلك البدلة خياط هندي أسمه (غلام رباني) له محل ركن في شارع الوطني بالعشار بالبصرة . يبدو بأن والدي رحمه الله كان زبونا لهذا الخياط , وحين شعر باني اصبحت كبيرا بما يكفي أخذني الى هذا الخياط لكي يخيط لي بدلة للعيد . ذهبنا قبل العيد الصغير بمدة كافية الى ذلك الخياط الذي كان من السيخ حسب عمامته التي كان يرتديها . وبعد أسبوع تقريبا ذهبت اليه مرة اخرى لكي اقوم بعمل براوة حيث ألبسني البدلة وهي مملوءة بالدبابيس والخيوط وراح يجربها علي مستعملا احجار مسطحة ملونة لعمل خطوط حيث يتعين عليه ان يقص او يمرر اماكن الخياطة . وبعد اسبوع أخر ذهبت اليه مرة اخرى لاستلم البدلة وهي جاهزة وجربها علي ثم وضعها في كيس انيق لكي أخذها للبيت حتى البسها حين يحل مصباح العيد . فرحت كثير بهذه البدلة التي لبستها لاول مرة بحياتي شاعرا باني قد اصبحت مثل الرجال البس الان مثلهم ولم اعد البس الشورت القصير والبلوزات او الجاكيتات كما كنت قبلها . والمحزن بهذا كله ان تلك البدلة يجب ان البسها نفسها حين يحل العيد الكبير اذ ان كلفتها كما يبدو كانت عالية بحيث لم يكن من الممكن خياطة واحدة للعيد الصغير وواحدة اخرى للعيد الكبير . كان الموديل بوقتها سترة قصيرة بنسق وعرض ثابت من الاعلى الى الاسفل ومن غير فتحات , اما البنطلون فكان بكفة متوسطة العرض .
كان ذلك بالصف الخامس ابتدائي وقد تكررت نفس الحكاية بالصف الذي يليه وكانت البدلة التي خيطها لي الخياط (غلام رباني) في تلك السنة نيلية اللون هذه المرة وكنت فرح بها جدا لانها كانت جميلة جدا ومتناسقة وكاعدة كلش على جسمي في حينها . لم يكن مسموح لي بان ألبس هذه البدلات بالمدرسة بل كنت البسها فقط بالطلعات المسائية وحين نذهب الى نادي شركة النفط البصرة بالعشار لمشاهدة الفلم السينمائي كل اثنين وخميس . وفي احد الايام تقرر بمدرستي الابتدائية اختيار فارس للصف وطلب منا ان نرتدي اجمل وافضل ملابسنا في يوم الاختيار . شعرت بان هذه المناسبة مهمة وتستحق ان ارتدي بدلتي النيلية بها , وبالفعل نهضت مبكرا وذهبت للمدرسة مرتديا تلك البدلة من دون ان يشعر بذلك احد . كنت كلي ثقة باني ساصبح فارس الصف لكن أملي خاب اذ تم اختيار طالب اخر بالرغم من شعوري الكامل باني كنت اكثر استحقاقا منه . غير ان امرا سيئا حصل لم اكن اتوقعه لكن الله ربما اراد با يعاقبني على فعلتي بمخالفة اوامر الاهل . ففي الفرصة كنت اركض بساحة كرة السلة ذات الصبة الكونكريتية وفجأة عثرت وسقطت على الأرض على ركبتي اليسرى مما ادى الى حصول شق (تمزق) في البنطلون من تلك الجهة . عدت من المدرسة وانا خائف جدا من هذا الحدث , اولا لاني خالفت اوامر الاب وارتديت البدلة في المدرسة وهذا ذنب كبير بحد ذاته , وثانيا لاني مزقت البدلة وهذا ذنب اخر اكبر من الاول . لم اخبر احد بما جرى لكن المشكلة كانت في ان العيد الكبير كان على الابواب ومن المفترض ان ارتدي نفس البدلة بحلول هذه المناسبة . قررت مع نفسي بان اموه على الاخرين وان احاول ان اجعل التمزق غير ظاهرا بقدر ما استطيع اما بوضع راحتي عليه حين اجلس او بان ادفع الشق الى الداخل حين امشي لكي لا يكون ظاهرا , وبالفعل نجحت بهذا نجاحا كبيرا ولم يشعر احد بما حصل للبدلة طيلة ذلك العام .
في الصف الاول متوسط كانت البدلة التي خيطتها سودا منقطة بنقط بيضاء ولا زلت احتفظ بصورة بهذه البدلة . تكرر الامر بالصف الثاني , اما بالثالث متوسط فقد حدث لبدلتي حادث مريع غير متوقع . كنت بتلك السنة قد بدأت ادخن خفية بعض السكائر التي اسرقها من زوجة ابي او اشتري سكائر مفردة من بائعي السكائر الجوالين . وقد حدث في عصر احد الايام ان اشتريت سيكارة روثمان بعشرة فلوس واخذت ادخنها بالشارع زاهيا بنفسي وببدلتي وبسيكارتي . وفجأة وبدون توقع وجدت ابن عمي امامي فارتبكت ولم اعرف ماذا افعل ولم اجد غير ان ادس السيكارة بجيبي الايمن . ظل ابن عمي يكلمني لدقائق وانا متحرج لا اعرف ماذا افعل حتى استأذنت منه اخيرا وابتعدت عنه لاخرج السيجارة من جيبي فاذا بفتحة محروقة بقطر انج قد صارت بجيبي . عدت للبيت وانا قلق لا ادري ماذا افعل فاخذت ابحث بين طيات البنطلون والسترة علي اجد قطعة زائدة لاعمل منها رقعة , وبالفعل وجدتها فقمت بخياطتها على منطقة الفتحة لكي اسدها . كانت الرقعة ظاهرة للعيان بوضوح لكني كنت قد اعتدت على التمويه فاصبحت امشي وراحة يدي اليمنى لا تفارق مكان الرقعة بالجيب لتغطيتها . ظل موديل بدلات (غلام رباني) على حطته من غير تبدل سوى ادخال فتحة طولية قصيرة بظهر السترة من الوسط .
وحين انتقلنا الى بغداد بالثانوية ارسلني والدي الى خياط بشارع النهر محله في داخل عمارة لا يمكن الوصول اليه الا من خلال ممر ضيق وكأني داخل الى دهليز خفي . كان هذا الخياط رجل كبير السن اسمه (سيد جواد) ولم يكن خياطا ماهرا فمعظم البدلات التي خيطها لي كانت (سكط) . كانت لمساته على البدلة كلاسيكية من دون اي حداثة وكنت احاول ان اطلب منه ادخال بعض التحديثات كجعل البنطلون فلات من غير كفة وبجيب مائل وحباسيات حزام عريضة وغير ذلك . بالصف الخامس الاعدادي ذهبت اليه كعادتي لكي يعد لي بدلة للعيد , وحين ذهبت لاستلامها سلمني والدي مبلغ خمسة دنانير لاعطيها له كأجور للخياطة . لا أذكر مالذي حصل بوقتها وجعلني لا اعطيه الفلوس بل اخذتها لنفسي وصرفتها على شؤوني الخاصة . طبعا لم يستغرق الوقت طويلا ليعرف والدي ذلك ويوبخني على فعلتي فقام بقطع ثمن الخياطة من مصروفي عقابا لي .
بالسنوات اللاحقة اصبحت بالكلية وصرت اهتم بنفسي ولم اعد استسيغ خياطة سيد جواد السيئة , وكنت قد انتقلت بوقتها للعيش في بيت جدي مقابل ساحة عنتر . كان خالي سعد الذي يسكن بنفس البيت انيقا وكان يرتدي البدلات التي يجلبها من بيروت في سفراته . صرت اغار من خالي واريد ان اظهر انيقا مثله فاخذت استعير بعض من بدلاته لالبسها بالكلية دون ان اصرح طبعا بانها مستعارة من خالي . ارشدني في وقتها خالي الى خياط جديد شهير محله بشارع الرشيد اسمه (فاضل أدم) . كان فاضل ادم يأخذ مبلغ 12 دينار لخياطة البدلة وقد خيطت عنده عدة بدلات شتوية وصيفية . كان افضل بكثير من سيد جواد لكنه ظل دون الطموح واقل مما أحب ان تكون به بدلاتي . بدلات فاضل ادم كانت ذات سترة طويلة بفتحتين والجيوب ذات غطاء فوقها . وفي اوائل السبعينات اشتهر في بغداد خياط اسمه (احمد حسن) كانت تظهر له دعايات في المجلات اللبنانية كمجلة الموعد ومجلة السينما والعجائب . كان محله بشارع السعدون قرب سينما النصر ويأخذ على خياطة البدلة مبلغ 15 دينار . ذهبت اليه وخيطت عنده بدلة وانا بالصف الثالث كلية وكانت رائعة بحق ولا زلت اذكرها لحد الان , اذ كانت بنية غامقة مقلمة بخطوط جميلة وكانت كلش كاعدة علي . كانت تلك البدلة اول بدلة البسها بموديل الشارلستون الذي ساد بذلك الوقت , وكم كنت ازهو بها بالكلية وبالشارع . خيطت عند احمد حسن اربع او خمس بدلات لكنها لم تكن جميعا بجودة اول بدلة خيطتها عنده . كان موديل السترة بوقتها طويلة بفتحتين طويلتين واكتاف وياقات عريضة مع خصر ضيق يتبعها نهاية كلوش عريضة . الخياط الاخير الذي خيطت عنده بدلة في حياتي كان بالبتاوين وقد ارشدني عليه عديلي وكانت خياطته لا باس بها , وبعدها صرت اشتري البدلات الحاضرة من محلات أورزدي باك . وكان قد شاع في النصف الثاني من عقد السبعينات البدلات ذات اليلك المتكونة من ثلاث قطع , وبهذا الموديل ابتدأنا عصر البدلات الرجالية الحاضرة .

هذه صورة شبيهة بالخياط الهندي (غلام رباني) ثم صورتين لي ببدلتين من خياطته وانا بالصف الاول متوسط , ثم صورة لخياط بغدادي شبيه بالخياط (سيد جواد) مع صورة لي من خياطته ثم صورة لي مع خالي سعد ببدلة من خياطته ايضا , واخيرا بدلة من خياطة (احمد حسن) .



 










وسام الشالجي
31 تموز (يوليو) 2017