اخر المواضيع في المدونة

الجمعة، 14 أبريل 2017

خواطر بالاسود والابيض - كيف كتب عمر جديد للوالد بعد حادثة مقتل الرئيس عبد السلام عارف

بمناسبة الذكرى الواحدة والخمسون لواقعة مقتل الرئيس العراقي عبد السلام محمد عارف سأخصص خاطرتي بهذه المرة لذلك الحدث , ولأكتب فيها عن نجاة المرحوم والدي من تلك الحادثة التي كان على وشك ان يكون احد ضحاياها . كان المرحوم والدي (قاسم الشالجي) خريج الدورة 19 للكلية العسكرية وقد تخرج منها عام 1941 برتبة ملازم ثاني . وفي عام 1952 دخل كلية الاركان وهو برتبة رئيس وكان معه بنفس الدورة الرئيس الاول عبد السلام عارف الذي كان خريج الدورة 17 للكلية العسكرية . توطدت الصداقة بين الرجلين واستطاع عبد السلام عارف ان يستميل الوالد بأفكاره القومية والوحدوية . وعند تخرجهما من كلية الاركان كانت اواصر الصداقة قد اصبحت متينة وقوية الى درجة كبيرة . مرت السنون ووقعت حركة الرابع عشر من تموز عام 1958 وكان والدي بوقتها برتبة مقدم ركن ويشغل منصب أمر مدرسة الهندسة الالية الكهربائية بمعسكر الرشيد . فرح والدي بتلك الحركة لشعوره القومي اولا ولتولي صديقه عبد السلام عارف منصبا رفيعا فيها , وكذلك لتوجه الحركة نحو الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة لما يكنه من حب واحترام لزعيمها جمال عبد الناصر . وما هي الا أسابيع قليلة حتى انقلب الحال على عبد السلام عارف وبدأ مسلسل تجريده من مناصبه حتى وصل الامر الى اعتقاله واحالته للمحكمة العسكرية العليا الخاصة بتهمة تأمره على الثورة ومحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم . انتهت المحاكمة بالحكم على عبد السلام عارف بالاعدام وبدأت عملية تصفية كل اتباعه والمحسوبين عليه . وبنفس الوقت توترت الاوضاع بالبلاد واصبح الشيوعيون يسيطرون على الشارع وراحت المظاهرات الهستيرية تندلع بطول البلاد وعرضها خصوصا بعد حركة الشواف متوعدة كل من لا يتلائم تفكيره مع روحية الثورة بالتصفية والسحل . كان والدي معروفا في وحدته بانه قومي التفكير والتوجه وكان الجميع يحسبونه على رجال عبد السلام عارف , وهو أمر كان خطرا جدا في حينها . وفي صباح احد ايام ربيع عام 1959 تجمع جنود وضباط مدرسة الهندسة الالية الكهربائية في ساحة عرضات الوحدة واخذوا يرددون هتافات حماسية مؤيدة للثورة وللحزب الشيوعي العراقي وارتفعت نبرات الهتاف بشكل هستيري غير منضبط , فما كان من المساعد غير الحضور لغرفة الأمر والطلب منه بان يخرج الى ساحة العرضات ويلتقي بالجموع المتجمهرة وان يلقي فيهم كلمة تهديء من حماسهم وتدفعهم الى فض التجمع والعودة لممارسة اعمالهم اليومية . لم يتأخر الوالد عن ذلك وبالفعل خرج اليهم وراح يخطب بهم كلمة لم تتوافق على ما يبدوا مع وتيرة تفكيرهم فأشتد الصياح والهرج واصبح الموقف على وشك الخروج عن السيطرة فأحس الوالد بالخطر وشعر بان الجنود ربما سينقضون عليه ويسحلوه كما حدث في وحدات عسكرية اخرى قام الجنود فيها بسحل أمريهم بتهمة عدم تأييد الثورة او العمل ضدها . هرع الوالد الى غرفته والجنود يركضون خلفه ولم ينقذه من المصير المحدق به سوى ان غرفته كانت ذات بابين واحد يطل على باحة الوحدة وساحة العرضات والثاني يطل على الخارج حيث تقف سيارته الجيب . قفز الوالد الى سيارته بسرعة وطلب من سائقة المغادرة فورا والذهاب به الى وزارة الدفاع حيث قام هناك بتثبيت وقائع ما حدث ثم عاد الى منزله بانتظار الاوامر . لم تمضي على هذا الحدث سوى أيام قليلة حتى صدر مرسوم جمهوري بأحالة عدد من الضباط المحسوبين على عبد السلام عارف على التقاعد ومن بينهم المرحوم والدي .

اصبح الوالد ضابط متقاعد وعمره لا يتجاوز السابعة والثلاثين من العمر فراح يبحث عن وسيلة يعتاش عليها تناسب مع وضعه وحالته . اخذ يراجع الكثير من معارفه واصدقائه بحثا عن فرصة عمل لكن الجميع كانوا يتملصون منه . أذكر انه قال لي باحدى المرات بانه كان في يوم ما رئيس لجنة مشتريات وزارة الدفاع وكانت غرفته تعج بالزوار من تجار وصناعيين حتى انه كان يضطر لطلب كراسي اضافية لعدم وجود مكان لجلوسهم . وحين تقاعد اخذ يمر على نفس من كانوا يزورونه لكنهم كانوا جميعا يتهربون منه . عرف الوالد بان ألأمل بهؤلاء معدوم فجرب حظه في فتح مطعم بالكرادة بالمشاركة مع احد اصدقائه لكن المطعم فشل وتمت تصفيته بعد مدة . ومن حسن الصدف ان والدي كان قد أرسل بعقد الخمسينات بدورة الى انكلترة بكلية سانت هيرتز استمرت حوالي سنتين , وهناك اتقن اللغة الانكليزية بطلاقة . كان معه بنفس تلك الدورة ضباط رفيعين من بينهم الزعيم عبد الكريم قاسم واللواء غازي الداغستاني الذي يقول عنه الوالد بانه لم يرى بحياته عراقي يتكلم الانكليزية بطلاقة مثله , حتى انه كان يتكلمها بافضل من ناطقيها . وفي احد الايام سمع بوجود وظائف شاعرة لدى شركة نفط البصرة فتقدم اليها على اعتبار انه فني ويتقن الانكليزية فتمت مقابلته وقبل بالوظيفة وجرى التعاقد معه وتم تعينه لدى الشركة المذكورة بوظيفة مدير قسم السلامة .
ظل والدي بتلك الوظيفة لحوالي سبع سنوات وبدخل محترم حتى انه اصبح معروفا بأوساط البصرة ومحافلها ولم يكن لديه اي شيء يعكر حياته . وفي تشرين اول من عام 1965 زار عبد السلام عارف البصرة وكان الوالد احد مستقبليه هناك لصداقته بالرجل اولا ولكونه من وجهاء البصرة ايضا . تفاجيء عبد السلام عارف بالوالد هناك وسأله عن احواله فشرح له كل ما مر به طيلة تلك السنين . اراد الرئيس ان يصلح بعض ما مر به الوالد وما اصابه من حيف وأذى لكونه كان محسوبا عليه فطلب منه بان يستقيل من شركة نفط البصرة وان يأتي الى بغداد ليعينه بمنصب معاون مدير مصلحة الكهرباء الوطنية واعدا اياه بان يجعله مديرها العام بعد عدة أسابيع لانه يخطط لتعيين مديرها (جهاد احمد فخري) وزيرا للصناعة . ثم أمله اكثر بان وعد بتعيينه وزيرا ايضا في مدة لا تتجاوز السنة . أغتر الوالد كثيرا بتلك العروض وسارع الى تقديم استقالته من شركة نفط البصرة وتخلى عن راتبها العالي المغري وامتيازاتها وسافر الى بغداد حيث تعين معاونا لمدير مصلحة الكهرباء الوطنية , وصار ايضا من بطانة الرئيس ممن يحضرون كل المناسبات الرسمية ومن مرتادي القصر الجمهوري .


في نيسان عام 1966 قرر الرئيس عبد السلام عارف زيارة البصرة مرة أخرى لافتتاح بعض المشاريع وكان ممن ورد اسمه بالوفد المرافق للرئيس بهذه الزيارة الوالد (قاسم الشالجي) . يتحدث الوالد عن تلك الزيارة ويقول بأنه كان ملازما للرئيس في كل جولاته بالبصرة لمعرفته الجيدة بها , وكثيرا ما كان يركب نفس الطائرة المروحية التي تقله من مكان لأخر . وعند ذهاب الرئيس الى مدينة القرنة صادف ان كان ذهابه الى هناك بتلك المرة بسيارة تعود لمصلحة الكهرباء بصحبة صديقه (صبيح الجنابي) الذي كان يشغل ايضا منصب المعاون الثاني لمدير مصلحة الكهرباء الوطنية , وهو ايضا ضابط سابق ومن المحسوبين على الرئيس عبد السلام عارف . وبعد انتهاء مراسيم الاحتفال والقاء كلمة بالجماهير المتجمعة ذهب الرئيس الى طائرته للعودة الى البصرة حيث ستكون هناك حفلة بالمساء تقام على شرفه في فندق شط العرب . كان الوالد يرافق الرئيس وصعد معه بنفس الطائرة التي ستعيده الى البصرة , لكن القدر اراد غير ذلك . قبل أقلاع الطائرة بلحظات أطل من بابها صبيح الجنابي وسلم على الرئيس والموجودين معه ثم قال للوالد (قاسم ... احنا موجينا سوه ليش تخليني ارجع وحدي؟ ) . لم يكن امام الوالد غير ان يستأذن من الرئيس والطلب منه بان يسمح له بالعودة بنفس السيارة التي تحمل صبيح الجنابي . أذن الرئيس للوالد فغادر الطائرة وعاد مع صديقه صبيح الجنابي الى دار الاستراحة العائد لمصلحة الكهرباء الوطنية الواقع بالنجيبية في البصرة حيث استراحا قليلا ثم ارتديا ملابسهما وتوجها الى فندق شط العرب لحضور حفلة العشاء المقامة على شرف الرئيس . تأخر الرئيس عن الحضور ومر الوقت والجميع بانتظاره . وبحوالي الساعة الثامنة مساءا اصبحت تدور بالموقع حركة غير طبيعية تنم عن القلق والارتباك وأخذ بعض الاشخاص يأتون من خارج الفندق ويهمسون بأذان بعض الوزراء الحاضرين ثم يخرجون بسرعة . وبحوالي الساعة التاسعة ليلا اعلن عن الغاء الحفلة وطلب من الجميع المغادرة دون الافصاح عن أي شيء . عاد الوالد مع صديقه الى دار الاستراحة وهما يشعران بان حدثا ما لابد وان يكون قد حصل لكنهما لم يتوقعا ابدا بان مكروها قد حصل للرئيس . وبالصباح الباكر اعلن من دار الاذاعة عن وفاة الرئيس بحادث تعرضت له طائرته المروحية ففجع الجميع بذلك الحدث ومن بينهم طبعا الوالد . قيل عن الحلدث بانه قضاء وقدر وان سقوط الطائرة كان بسبب هبوب عاصفة مفاجئة , لكن الحقيقة لم تعرف ابدا . ومما يقوله الوالد عن ماعرفه في حينها بالبصرة ان الرئيس عبد السلام عارف لم يفارق الحياة الا بالساعة الرابعة فجرا وانه زحف حوالي 200 متر من مكان سقوط الطائرة بامل ان يلقاه احد وينقذه ، لكن فرق التفتيش لم تخرج للبحث عنه الا صباح اليوم التالي وهذا الامر لوحده يدفع الى الكثير من التساؤل .

قلقنا نحن في بغداد على الوالد لأنه كان من ضمن الوفد المرافق للرئيس اثناء زيارته ولانه اصبح كثيرا ما يرافقه بكل تحركاته , لكن الوالد اتصل بنا هاتفيا ظهر ذلك اليوم ليطمئننا على سلامته . وبذلك كتب للوالد عمر جديد عاشه بعد تلك الواقعة الى ان وافته المنية عام 2010 , اي بعد 44 عام من ذلك الحادث فلحق بقافلة من رحلوا من اصدقائه ومعارفه . تغمدهم الله جميعا برحمته الواسعة واسكنهم فسيح جناته .

للوالد الكثير من الصور التي اخذها بتلك الزيارة مع الرئيس عبد السلام عارف وهي موجودة بداره في بغداد , ولكوني اعيش بالغربة لم يتسنى لي الرجوع اليها وارفاقها هنا . وهذه بعض الصور الموجودة عندي له , حيث تبين الصورة الثالثة الدورة التي تخرج فيها من كلية سانت هيرتز العسكرية بلندن والتي حضرها الامير عبد الاله حيث يبدو الوالد تحت السهم الاحمر بينما يظهر فيها الزعيم عبد الكريم قاسم تحت السهم الاصفر, والصورة الاخيرة له بنفس الوقت الذي استقال فيه من شركة نفط البصرة . 






وسام الشالجي
13 نيسان (ابريل) 2017