من المحزن ان يكون ماضينا جميلا وحاضرنا سيئا , لكن هذا هو للاسف ما
عشناه على كل حال . لم اعش أبدا طوال حياتي التي قضيتها بالعراق يوما كان أفضل من سابقه
, بل كان كل يوم جديد يطل هو أسوأ بكثير من اليوم الذي سبقه وكأننا نعيش على منحني
شديد الانحدار . لم يكن ذلك أمرا خاصا بي لظروف معينة مرت في حياتي , بل كان وضعا
عاما كنت أراه في حياة كل من عاش معي وحولي . كان ذلك الوضع هو حال بلد كامل ساءت
به الاحوال بالتدريج وتدنت الخدمات فيه مع الوقت وانحدرت حياة مواطنيه بمرور الزمن
. لا استطيع ان اقول في هذا المكان الضيق لماذا حصل كل هذا، قد يكون نحس أسود اصاب
وطننا فدمر البلد وسود حياة كل من عاش به , أو قد تكون لعنة غضب من السماء نزلت
على البلد فعم فيه الخراب واصاب البلاء كل من يقطنه .
حين اعود بذاكرتي الى أيام ماضينا البعيد مما صار سحيقا في اعماق
الزمن أرى بان الحياة كانت في يوم ما تزهو بما فيها من جمال وكان كل ما فيها منيرا
وملونا , وكل ما يلوح بالافق يبعث على الأمل ويبشر بما يحمله القادم من الايام .
لكن كل ما أتى بعد ذلك كان غير هذا بالمرة وراحت الانوار والالوان تتبدد وبدأ يحل
محلها الظلام والسواد في كل مكان .
في يوم ما , كان اول يوم من ايام المدرسة من اجمل الايام حيث نرتدي
اجمل ملابسنا وننطلق بزهو من الصباح الباكر الى مدارسنا الجميلة التي تمد ايديها
لتحتضننا بفرح وحنان . وكنا حين نعتب صفوفنا نجد بان هناك دولة قد فكرت بنا مسبقا
ووفرت لنا كتب جديدة وما يكفينا من قرطاسية جميلة . كما كان المعلم في نظرنا جبل
من الثقافة وقمة في العلم وقامة في الشخصية , وكم تاثرنا بمعلم ما فجعلناه قدوة
لنا في كل شيء
. الكثير من المدارس كان فيها تغذية مدرسية كانت على بساطتها تجعلنا
نوقن باننا لسنا وحدنا في هذه الحياة بل هناك بلدا من ورائنا يعدنا لكي نكون رجاله
بالمستقبل . كل هذا تبدل مع الايام , فأختفت الكتب الجديدة وحل محلها كتب مستعملة
وحتى تالفة , كما تداعت ابنية المدارس بعد ان اكل منها الدهر وشرب , وتبخرت
التغذية المدرسية وقلت الرعاية وتبدد الاهتمام وانحطت مكانة المعلم بنظر تلاميذه ,
وكثيرا ما تحولت المدارس الى اماكن للجباية والبحث عن المنفعة وأخذ العطايا .
في يوم ما كنا نذهب الى المدرسة مستعملين باصات المصلحة الحكومية ذات
المقاعد الجلدية الوثيرة التي يتسيدها الجابي الانيق بملبسه الخاص والكاسكيت الذي
يتوج رأسه ومحفظة النقود المعلقة بحزامه والمفتش الذي يتحسس الجميع بطاقاتهم عند
صعوده للباص ليعاينها ويقرضها بألته القارضة التي يحملها . لكن الحال تغير مع
الزمن وتدهور حال الباص وغابت قطع مساره واختفى الجابي منه واختفت الكثير من
الخطوط , ولم يعد الناس يراعون قانون عند ركوب باص المصلحة او اية تعليمات .
في يوم ما كانت القطارات تصل معظم مدن العراق وكان السفر فيه من اجمل
المناسبات
. كنا نركب القطار من البصرة الى بغداد او بالعكس وقد حجزنا قبل مدة غرف
منام مكيفة بستائرها الانيقة على الشبابيك فيطل علينا بعد تحرك القطار (تيتي) العربة
ليسألنا عن ما نرغب به اثناء الرحلة من مأكل او مشرب او أي خدمة نحتاجها فنقضي
ليلة من أمتع وأجمل الليالي وكاننا في عالم الاحلام . لكن الحال تغير
مع السنون فتدهور حال القطارات وتبددت تلك الرفاهية وغابت الفخامة وأختفى معهما
التيتي , وشيئا فشيئا تدنى حال العربات وغاب عنها التكييف وانقطع عنها الكهرباء
حتى توقفت الرحلات تماما في جميع خطوط السكة الحديدية بالبلد .
في يوم ما كان هناك بريد يفخر به البلد وكانت الرسائل تصل بسرعة
لوجهتها وكانت الطرود والمواد المرسلة تصل لاصحابها من غير نقص او عبث , كما كانت
صناديق البريد الحمراء في كل مكان تفرغ من محتوياتها في اوقات معينة ثابتة . كما
كان لكل منطقة ساعي بريد معروف من اهلها يركب دراجة على جانبيها حقائب يضع فيها
الرسائل . لكن الحال تغير مع الايام وصارت الرسائل لا تصل لاصحابها والطرود
والمواد تسرق قبل وصولها ومن يحتاج بعمله لبريد منتظم يصله صار يدفع رواتب شهرية
لمن يعملون بمكتب البريد ليضمنوا وصول بريده اليه بسلام واختفت صناديق البريد
الحمراء واختفى معها ساعي البريد .
في يوم ما كنا نتصل بالهاتف بشركة البيبسي او الكوكا كولا او الحليب
المعقم او اي مشروب اخر لنطلب صندوق مملوء واصل للبيت فتأتينا بعد برهة سيارة
الشركة وتعطينا الصندوق الذي طلبناه مقابل صندوق فارغ وبسعر الكلفة وبدون اجور نقل
, لكن الحال تغير مع الوقت وغابت مثل هذه الخدمة الى الابد .
في يوم ما كنا نتصل بشركة قناني الغاز بالهاتف طالبين قنينة غاز فتأتينا سيارة خاصة تحمل قناني الغاز ويهبط منها عامل خاص يحمل القنينة الى داخل المنزل ليركبها في الطباخ بنفسه ويجربها قبل ان يغادر حاملا القنينة الفارغة مقابل ثمن لا يتجاوز سعر القنينة الرسمي . غير ان مثل هذه الخدمة توقفت مع مرور الايام وصارت القناني في وقت من الاوقات لا تباع الا بالسوق السوداء وباضعاف ثمنها الاصلي .
في يوم ما كنا نتصل بشركة قناني الغاز بالهاتف طالبين قنينة غاز فتأتينا سيارة خاصة تحمل قناني الغاز ويهبط منها عامل خاص يحمل القنينة الى داخل المنزل ليركبها في الطباخ بنفسه ويجربها قبل ان يغادر حاملا القنينة الفارغة مقابل ثمن لا يتجاوز سعر القنينة الرسمي . غير ان مثل هذه الخدمة توقفت مع مرور الايام وصارت القناني في وقت من الاوقات لا تباع الا بالسوق السوداء وباضعاف ثمنها الاصلي .
في يوم ما كنا نمر بسيارتنا على محطة الوقود للتزود بالبنزين الذي
يباع بالغالون
, فيقوم العامل بمليء الخزان دون ان يهبط السائق من سيارته ثم يأخذ منه الثمن
من خلال الشباك والتي لا تكلف اكثر من مئة او 150 فلس في اعلى الحالات . لكن الحال
تغير مع الايام واصبح البنزين اثمن من الطعام والدواء وكثيرا ما أصبح يباع بالسوق
السوداء او بالواسطة او بالدبات في الشوارع باضعاف سعره الرسمي . واذا جرت
التفويلة من محطة الوقود يفرض العامل مع الثمن عمولته التي يأخذها من كل سائق رغما
عن انفه
.
في يوم ما كان الناس يخافون من سائق التاكسي العابر فكانوا يطلبون
سيارة الاجرة بالهاتف من شركات معروفة مفتوحة بكل المناطق , ولا تمضي سوى دقائق
حتى يسمع صوت هورن السيارة وقد توقفت بباب الدار لتأخذ من طلبها الى اي مكان يريده
وبأجرة معقولة يقدر الجميع عليها . لكن الحال تغير مع الزمن واختفت شركات التاكسي
واصبحت سيارات الاجرة تملأ الشوارع وصارت الاجرة كبيرة وغير معقولة , وصار سائق
التاكسي هو الذي يخشى الراكب خوفا من ان يسلبه او يختطفه أو يقتله لقاء ما معه من
نقود
.
في يوم ما كان في كل محلة دكان فيه كل ما تحتاجه العائلة من مواد
ومشروبات ومرطبات وحتى الصمون والادوية المسكنة , بل كان يبيع حتى
النفط الابيض بكميات صغيرة تسد حاجة العائلة عند الحاجة الطارئة . كان صاحب هذا
الدكان صديقا لكل سكان الحي , وكثيرا ما كانت العوائل تشتري منه بالدين فيفتح لهم
حسابات خاصة يدونها في دفتر او سجل يحتفظ به لقاء اقساط شهرية . لكن الحال تغير مع
الزمن وتحولت تلك الدكاكين الى وكالات خاصة تبيع نوع واحد من المواد وصار من يعمل
بها اشخاص غرباء عن المنطقة وعن اهلها وصاروا يتعاملون مع الناس وكانهم موظفين
متسيدين عليهم .
في يوم ما كان الراتب قليلا لكنه كان كافيا ويسد متطلبات كل شخص ,
وكانت الجمعيات التعاونية متوفرة للجميع وتبيع كل انواع الاجهزة والمعدات للناس مقابل
اقساط شهرية , بل حتى السيارات كانت تباع للموظفين مقابل اقساط مريحة . واليوم صار
الراتب كبيرا لكنه لم يعد يسد حاجة الانسان لان البضائع غالية والخدمات مكلفة
والتضخم يمتص كل ما يجنيه المرء .
في يوم ما كانت سيارات شرطة النجدة تجوب الاحياء السكنية ليلا ونهارا
, وكانت الشوارع لا يغيب عنها ابدا افراد من الشرطة اومراتب من الانضباط العسكري
مما كان يجعل الامن مستتبا ومشاعا . وكان اي عسكري يرتدي قيافته العسكرية بزهو مفتخرا
بها وبرتبته التي يعلقها حتى وان كات مجرد خيط على الذراع . لكن الحال تغير مع
الوقت فاختفت مفارز الشرطة وحل محلها رجال مسلحون لا يعرف اصلهم ولا فصلهم , واصبح
العسكري يخاف من ارتداء ملابسه العسكرية فيأخذها معه الى وحدته ولا يرتديها الا
بداخلها , كما اختفى الامن من كل المناطق وحل محله الجريمة المنظمة والموت المجاني
لابسط الاسباب
.
في يوم ما كان الشباب والصبايا زهور المحلة الجميلة ومحط فخرها . لم
يكن الترويح عن النفس يتجاوز التمشي والنزهة كل عصرية ومساء في شارع التبضع
الرئيسي بالمنطقة . لم تكن البنات محجبات ولا الشبان متدينون لكن اذا مد الحب
خيوطه بين اثنين كان يظل مقدسا وعفيفا حتى يصل الى غايته بالزواج . واليوم , وبالرغم من
الحجاب والقيود الدينية التي يفرضها المجتمع نجد ان قدسية العلاقة بين اي شاب
وشابة قد ضاعت وتبددت عفتها في مقاهي الاركيلة ودروب البحث عن المتعة .
في يوم ما لم يكن في كل الدور هواتف لكن الهواتف العمومية كانت في كل
الشوارع , وكل المحلات فيها هواتف يسمح باستخدامها لقاء ١٠ فلوس للنداء ولم يكن
لطول المكالمة ثمن ، كما كان هناك دليل هاتف في كل مدينة فيه ارقام وعناوين كل
المشتركين . كان الاحباء يتخاطبون بالرسائل وكان بذلك متعة ليس بعدها متعة وكان
الشوق باعلى درجاته
. واليوم لدينا موبايلات بجيوبنا والاتصال يجري بسرعة البرق ولدينا
انترنت ووسائل تواصل لكن الحياة سقيمة والوحدانية بقمتها .
في يوم ما كان حين يعطل اي جهاز لدينا بالبيت نفتح دليل الهاتف ونتصل بواحدة من عشرات الشركات التي تصلح الاجهزة بالبيت وامام الزبون
, وما هي الا ساعة او ساعتين حتى ياتي المصلح ويجري اللازم وبسعر مناسب . واليوم
علينا ان نحمل الاجهزة بسياراتنا ونذهب بها الى شعيط او معيط من المصلحين حيث يبقى الجهاز
لايام يسرق من داخله ما يسرق ثم يصلح بشكل عبثي وبسعر كبير ليعمل لفترة بسيطة ثم يكون
مصيره براميل القمامة .
في يوم ما كانت الشوارع نظيفة ومعلمة بعلامات السير وانظمة المرور
صارمة تفرض نفسها على الجميع , واليوم صارت الشوارع متخسفة وبلا علامات وشرطي
المرور يخاف من محاسبة اي سائق خشية ان يفرض عليه الفصل العشائري .
في يوم ما كان اجراء اي معاملة سهلا ولا يكلف كثيرا سوى الرسوم
الحكومية , واليوم لا يمكن اجراء اي معاملة من غير رشوة او واسطة على اقل تقدير .
في يوم ما كان هناك مختار يعرف كل افراد المحلة فردا فردا يراجعه
الجميع للحصول على تأييد سكن او شهادة حسن السيرة مقابل أجر رمزي , واليوم صارت
المحلات محكومة بانظمة عشائرية ضاع بها الاخضر بسعر اليابس وفي كثير من الاحيان لا
يمتد اليها سلطان الحكومة ابدا .
في يوم ما كانت سمائنا زرقاء وهوائنا منعشا وشتائنا باردا وصيفنا
معتدلا وربيعنا رائعا , واليوم غابت الفصول واختلطت ببعضها واكفهرت سمائنا وتلوث
هوائنا وانتشر فيه الغبار . في يوم ما كان في كل بيت حديقة او بقجة تلطف الجو نسهر
فيها ايام الصيف ونأكل من اثمارها , واليوم اختفت الحدائق وحل محلها المشتملات
واقتلعت الاشجار من الطرقات وصارت الارض تشتعل نارا تصب لهبها على كل من يعيش
قربها .
في يوم ما كانت تنتشر بالمدن السينمات والمسارح والمقاهي والمنتديات
الاجتماعية والثقافية والعلاقات المستقيمة , واليوم تنتشر حبوب الكبسلة والمخدرات
والافلام الاباحية ويعم الشذوذ بمختلف انواعه .
من المستحيل ان استجمع كل صور الماضي الجميل مهما اطلت , ولن استطيع
ان اصف كل حال الحاضر المظلم مهما اسهبت , لكني سأنهي
خاطرتي هذه بقولي : هنيئا لمن عاش بالماضي في العراق على جمالية الحياة التي
تذوقها , ويا حسرة على من يعيش في حاضر العراق على سوداوية أيامه .
وسام الشالجي
28 تشرين ثاني (نوفمبر) 2016