قد تكون هذه الخاطرة غير جميلة لكني اجد بانه
من الضروري المرور عليها لاننا جميعا
مررنا بحوادث وفاة مشابهة وباعمار متباينة , وانا شهدتها حين كان عمري بحدود الرابعة
عشر وقد تركت اثرا كبيرا في نفسي بوقتها جعلني افكر مبكرا وبعمق بالحياة والميلاد
والموت وابحر في كنه هذه الاحداث التي لابد لكل انسان بأن يشهدها شاء ام أبى . ففي
صباح يوم حار من ايام الصيف استيقظنا على رنين هاتف الدار حيث وردنا خبر وفاة
المرحومة جدتي (ام ابي) فاصبح البيت كله فجأة في حالة من التوتر الشديد . اخذت
الاحداث تتوالى بسرعة , حيث اكلنا طعام الفطور على عجل وبشكل استثنائي ثم هرع
والدي بعدها مسرعا الى سيارته لكي يذهب الى بيت عمي حيث تعيش جدتي فاخترت ان
ارافقه . لم اكن قد شهدت حالة وفاة من قبل الا من خلال السماع , اما ان اشهد حادثة
حقيقية وبدرجة قرابة بهذا القدر فهذا مالم يحدث لي من قبل . وصلنا الى بيت عمي
فلفت انتباهي منظر في باب الدار اثار فزعي قليلا هو منظر وجود تابوت موضوع على
الارض وغطائه مقلوب عليه . كانت الدنيا قائمة في بيت عمي , الاقرباء من كل صوب
يتوافدون على الدار والجوارين في المحلة يدخلون ويخرجون من البيت افواجا افواجا .
كان عمي باستقبال ابي عند باب الدار والذي ما ان رأه حتى تعانقا واخذا يبكيان
بحسرة وألم . دخلت انا الى باحة الدار فرايت اولاد عمي الذين هم باعمار مقاربة
لعمري وكانوا يتحدثون كيف حدثت الوفاة وماذا حصل بعدها . سالتهم عن بيبيتي
المتوفاة فقالوا لي انها بالداخل حيث يهيأونها للدفن . لم اعرف مالمقصود بتهيأتها
للدفن فاسترسلت بالسؤال فاخذ ابن عمي الاكبر يشرح لي كيف يغسلون الجثمان ثم
يأخذونه الى احد الغرف لتكفينه قبل وضعه بالتابوت . اثار الموضوع فضولي فسألت واين
هي الان فاشار الى احدى غرف الدار فتقدمت نحوها وسط عويل بعض النساء وصراخ اخريات
. وصلت الى تلك الغرفة بصعوبة شديدة بسبب الزحام الشديد على بابها وبداخلها . حشرت
رأسي بين الواقفين لكي القي نظرة على ما يجري بالداخل فشاهدت المرحومة جدتي مسجاة
على الارض ووجهها ظاهر وهو بصفار شديد بينما تقوم احدى النساء بلف جسدها باغطية
بيضاء . ارتعبت من المنظر لاني لم ارى ميت ابدا من قبل , وبعد دقائق انسحبت وعدت
الى المكان الذي فيه ابناء عمي .
افزعني رؤية منظر ميت لكني كنت احاول اظهار
القوة والجلد . بعد برهة تم ادخال التابوت الى الداخل مما يؤشر على ان اعمال
التهيئة قد انتهت وانهم يريدون وضعها داخل التابوت . تم ذلك بالفعل , وبعد قليل
وضع التابوت وسط غرفة المعيشة واحاطت به النساء من كل جانب وهم بحالة عويل وصراخ شديد
. لم يبقوا التابوت طويلا على هذا الحال لانه كان هناك من يشير الى ان الجو حار
مما يتطلب الانتهاء من مراسيم الدفن بسرعة وقبل حلول الظهر . اخرج التابوت من
البيت ووضع على سقف سيارة أجرة ولف بالحبال من كل جانب ثم انطلق الموكب الى
المقبرة فتبعنا الموكب بسيارة ابي التي ركب فيها معنا عمي ايضا . وحين وصلنا الى
المقبرة انتظم الكبار وصلوا على الجثمان صلاة الجنازة . بعدها حمل التابوت على
الاكتف الى المكان الذي حفرت فيه حفرة بعمق متر ونصف تقريبا . انزل التابوت بوسط
الحفرة ثم هبط اثنان من الدفانة واخذا يضعان بلوكات من الحجر يصفونها مع الطين على
جوانبه , ثم وضعت سعفة نخل فوق التابوت غطي بعدها تماما بالبلوك والطين واختفى عن
الانظار . في تلك الاثناء كان هناك قاريء يقرأ القرأن , وبعد ان طمر التابوت اخذ
يلقن الميت بما سيحدث له بعد الانتهاء من عملية الدفن وبما عليه ان يجيب اذا ما
سئل من قبل (الملائكة) . بعد ذلك تقدم المشيعون ورمى كل منهم حفنة تراب عليه اهيل
بعدها التراب على الحفرة حتى ملئت تماما وبذلك انتهت عملية الدفن . وقف ابي وعمي
بعدها يتقبلون العزاء ممن حضروا الجنازة . وبعد الانتهاء من هذه المراسيم غادر
الجميع المقبرة واختفى بذلك الميت من سجل الموجودين على قيد الحياة . ظلت مناظر
الدفن تلك والتي رأيتها لاول مرة مطبوعة في ذهني طيلة حياتي . وفي تلك الليلة
انتابني خوف وفزع شديد وانا بفراشي وانا اتصور الميت وهو مدفون بالقبر وكأنه حي
والظلام يحيط به من كل جانب والمكان الضيق الذي هو محصور فيه , حتى اني لم انم
ابدا في وقتها . وبالرغم من الوقع الكبير للحادثة على نفسي الا ان تكرر حالات
الوفاة بين الاقرباء بالسنوات اللاحقة وحصول نفس الوقائع تقريبا في كل مرة قد جعلني
اعتاد على تلك المناظر حتى اصبحت مألوفة بالنسبة لي .
وفي الايام اللاحقة انشغل الجميع بأقامة مراسيم الفاتحة للرجال والعزاء للنساء
وتغيرت الاجواء تماما من حزن وبكاء الى اهتمامات وانشغالات اخرى . كنا نحن الصبية والمراهقين
نتنقل بين الفاتحة والعزاء , وكان لدينا في وقتها اهتماماتنا الخاصة التي جعلتنا ننسى
وقائع الوفاة ومناظرها الصعبة ونهتم باشياء اخرى يمليها علينا عمرنا كشباب في مطلع
العمر . فقد كنا نستمتع برؤية الفتيات المراهقات من اعمارنا اللواتي كن يحضرن مع اهلهن
الى العزاء , فهذا كان يغازل تلك , وذاك كان يدس ورقة حب في يد تلك , بينما اخر يختلس
برهة ليطلق كلمة حب باذن اخرى , وهكذا . اما في الفاتحة فقد كنا نستمتع بتقفيص بعض
علب السيكاير التي تعج بها قاعة الفاتحة والتي تغنينا عن شراء السيكاير بالمفرد بالايام
العادية . وهكذا تغيرت الاجواء بالنسبة لنا , وحتى لغيرنا من كأبة وحزن على المتوفي
الى ونسة واستمتاع , وهذا هو ديدن الحياة اذ
سرعان ما ينسى الميت وينشغل الجميع بامور حياتية ودنيوية . رحم الله موتانا وموتى كل
الناس واسكنهم فسيح جناته , وهذه صورة المرحومة جدتي (زكية) ام ابي .
وسام الشالجي
31 تموز 2015