مع ان
انتقالنا للبرجسية كان نقلة حضارية كبيرة , الا ان هناك صفحة سيئة رافقت ذلك
الانتقال . كانت البرجسية كمدينة او حي سكني بلا مدارس , لذلك ترسل العوائل الساكنة
فيها ابنائها الى مدارس تقع اما بمدينة البصرة او بمدينة الزبير القريبة من
البرجسية . وحين انتقلنا الى البرجسية سجلنا والدي انا واخوتي الاخرين في مدارس
تقع في مدينة الزبير , وفي الحقيقة كان هذا الأجراء من الأمور التي لم يحسن والدي اتخاذ القرار المناسب
بشأنها . فالزبير كانت في تلك الفترة منطقة متخلفة جدا , واستطيع ان اقول بأنها كانت
تعيش في عالم القرون الوسطى , والفرق بينها وبين البرجسية ( وحتى مع مدينة البصرة)
كالفرق بين السماء والارض . وكانت شركة نفط البصرة تستأجر في وقتها باصين يأتيان للبرجسية
يوميا لنقل التلاميذ , واحد من شركة اسمها (شركة نقليات المربد) لنقل الطلاب الى مدينة
الزبير , والاخر من شركة اسمها (شركة نقليات الفرات) لنقلهم الى مدارس تقع في مدينة
البصرة . ولاننا سجلنا في مدينة الزبير فقد كنا من حصة باص شركة نقليات المربد الذي
كان باص لونه نيلي يقوده سائق اسمه (صمد) . كان الباص يأتي في ساعة
مبكرة من الصباح ويأخذنا نحن ومجموعة صغيرة اخرى من الطلاب الى مدارسنا في مدينة
الزبير , ثم يأتينا ظهرا ليعيدنا الى البرجسية . المدرسة التي سجلت بها كان اسمها
(مدرسة الحسن البصري الابتدائية للبنين) , وتقع وسط مدينة الزبير تقريبا . وكان
معي في نفس تلك المدرسة صديقي نبيل ابراهيم الالوسي الذي مالبث ان انتقل الى
البصرة بعد دوامنا في المدرسة باسبوع او اسبوعين , وصديق اخر اسمه بيتر توماس (او
بطرس) اكبر مني بسنة او سنتين لكنه كان معي بنفس الصف . كانت المدرسة تعبانة من كل
الوجوه , سواء في بنايتها وصفوفها ومستوى الطلاب الذين يدرسون فيها . واذا نظرنا
الى المناطق المحيطة بالمدرسة فلم يكن فيها في وقتها غير شوارع ترابية غير مبلطة
ومباني معظمها مبنية من الطين واوضاع مختلفة من الحياة المتأخرة . اما تلاميذ تلك المدرسة
فكان الكثير منهم يأتون للمدرسة بملابس بالية او بالدشاديش والنعل بسبب فقر
احوالهم . وكان يقف في باب المدرسة في الصباح الباكر وعند الظهر اصحاب عربانات
يبيعون مواد للتلاميذ مثل الدوندرمة او اللبلبي , او حلويات ومعجنات يحضرونها بمنازلهم
مثل الداطلي والكيك واللقم وغيرها . داومت في تلك المدرسة وانا مستغرب من هذا
الوسط الذي اصبحت فيه والبيئة التي تم جلبي اليها . انا كنت صغيرا في وقتها ولم
يكن متاحا لي الاعتراض , او حتى بيان رأي الخاص بهذا الوضع ولم يكن امامي غير
السكوت وتقبل هذا الحال مهما كان سيئا . كان مصروفي اليومي (يوميتي) عشرة فلوس ,
ولاني كنت اصل الى المدرسة مبكرا فكنت انفقها بمجرد وصولي من خلال الشراء من هؤلاء
الباعة , ولا ادري كيف كنت لا اصاب بالامراض من جراء تناول الاشياء التي يبيعونها
. وعند الظهر كنا نخرج من المدرسة انا وبيتر وكان يجب علينا ان ننتظر حوالي ساعة
الى ان يأتينا الباص . وكان يوجد مقابل المدرسة مقهى (قهوة) كنا نذهب اليه انا
وبيتر نجلس على مقاعدها المصنوعة من الخشب والجينكو بانتظار الباص . وفي كل يوم
كنا نجلس فيه بالقهوة كان بيتر يطلب لنفسه بطل بيبسي وبطل اخر لي . في الايام
الاولى للدوام كنت اشكر بيتر على هذه الدعوة واعتذر عن قبول البيبسي واقول له (شكرا
, لماذا هذه التكلفة ؟) لكنه كان يصر علي بان اقبل ذلك . كان بطل البيبسي يباع في
ذلك الوقت بميبلغ 15 فلس , اي ان بيتر كان يتكلف 30 فلس لقاء شراءء بطلين بيبسي يوميا
. مرت ايام والحال يتكرر واعتذاري يتكرر دون فائدة , حتى اعتقدت بان صديقي لابد وان
يكون غنيا واهله يعطوه الكثير من النقود وانه ايضا كريما جدا بحيث يدعوني يوميا
لتناول بطل بيبسي على حسابه . لم يخطر على بالي قط بان جلوسنا بالقهوة كان لابد وان
يرافقه طلب شيء , وان بيتر كان يدرك هذا الامر لانه اكبر مني , لذلك كان يطلب
البيبسي لنا اضطرارا وليس تكرما . ولابد بانه اخبر اهله بذلك فاصبحوا يعطوه ما
يكفي من النقود لان يشتري بطلين بيبسي من القهوة يوميا . وطوال عام دراسي كامل ظل
هذا الحال يتكرر دون ان يأتي يوم قط اشتري له انا بيبسي بالمقابل , وحتى وان اردت
ان افعل ذلك فمن اين أتي بما يكفي لشراء البيبسي ويوميتي لا تكفي حتى لشراء بطل واحد
لي . وحين كبرت وادركت حقيقة الوضع كم شعرت بالخجل مما كان يجري , وكم تمنيت بأن
ارى بيتر ولو لمرة واحدة لكي اشكره ولكي ارد له ذلك الكرم وذلك الفضل الذي كان
يتفضل به علي . بارك الله بذلك الصديق العزيز (بيتر) الذي لا ادري اين اخذته
الايام , وليس بيدي الان غير ان ادعوا له بالخير والصحة والعافية والموفقية , وان
شاء الله يمكنني من ارد فضل كل انسان تفضل علي في هذه الحياة التي عشتها .
وهذه صور بالاسود والابيض لمدرستي والقهوة ومدينة الزبير .
وسام الشالجي
15 نوفمبر 2014