اخر المواضيع في المدونة

السبت، 15 نوفمبر 2014

خواطر بالاسود والاببض - بطل بيبسي يوميا في الزبير


مع ان انتقالنا للبرجسية كان نقلة حضارية كبيرة , الا ان هناك صفحة سيئة رافقت ذلك الانتقال . كانت البرجسية كمدينة او حي سكني بلا مدارس , لذلك ترسل العوائل الساكنة فيها ابنائها الى مدارس تقع اما بمدينة البصرة او بمدينة الزبير القريبة من البرجسية . وحين انتقلنا الى البرجسية سجلنا والدي انا واخوتي الاخرين في مدارس تقع في مدينة الزبير , وفي الحقيقة كان هذا الأجراء من الأمور التي لم يحسن والدي اتخاذ القرار المناسب بشأنها . فالزبير كانت في تلك الفترة منطقة متخلفة جدا , واستطيع ان اقول بأنها كانت تعيش في عالم القرون الوسطى , والفرق بينها وبين البرجسية ( وحتى مع مدينة البصرة) كالفرق بين السماء والارض . وكانت شركة نفط البصرة تستأجر في وقتها باصين يأتيان للبرجسية يوميا لنقل التلاميذ , واحد من شركة اسمها (شركة نقليات المربد) لنقل الطلاب الى مدينة الزبير , والاخر من شركة اسمها (شركة نقليات الفرات) لنقلهم الى مدارس تقع في مدينة البصرة . ولاننا سجلنا في مدينة الزبير فقد كنا من حصة باص شركة نقليات المربد الذي كان باص لونه نيلي يقوده سائق اسمه (صمد) . كان الباص يأتي في ساعة مبكرة من الصباح ويأخذنا نحن ومجموعة صغيرة اخرى من الطلاب الى مدارسنا في مدينة الزبير , ثم يأتينا ظهرا ليعيدنا الى البرجسية . المدرسة التي سجلت بها كان اسمها (مدرسة الحسن البصري الابتدائية للبنين) , وتقع وسط مدينة الزبير تقريبا . وكان معي في نفس تلك المدرسة صديقي نبيل ابراهيم الالوسي الذي مالبث ان انتقل الى البصرة بعد دوامنا في المدرسة باسبوع او اسبوعين , وصديق اخر اسمه بيتر توماس (او بطرس) اكبر مني بسنة او سنتين لكنه كان معي بنفس الصف . كانت المدرسة تعبانة من كل الوجوه , سواء في بنايتها وصفوفها ومستوى الطلاب الذين يدرسون فيها . واذا نظرنا الى المناطق المحيطة بالمدرسة فلم يكن فيها في وقتها غير شوارع ترابية غير مبلطة ومباني معظمها مبنية من الطين واوضاع مختلفة من الحياة المتأخرة . اما تلاميذ تلك المدرسة فكان الكثير منهم يأتون للمدرسة بملابس بالية او بالدشاديش والنعل بسبب فقر احوالهم . وكان يقف في باب المدرسة في الصباح الباكر وعند الظهر اصحاب عربانات يبيعون مواد للتلاميذ مثل الدوندرمة او اللبلبي , او حلويات ومعجنات يحضرونها بمنازلهم مثل الداطلي والكيك واللقم وغيرها . داومت في تلك المدرسة وانا مستغرب من هذا الوسط الذي اصبحت فيه والبيئة التي تم جلبي اليها . انا كنت صغيرا في وقتها ولم يكن متاحا لي الاعتراض , او حتى بيان رأي الخاص بهذا الوضع ولم يكن امامي غير السكوت وتقبل هذا الحال مهما كان سيئا . كان مصروفي اليومي (يوميتي) عشرة فلوس , ولاني كنت اصل الى المدرسة مبكرا فكنت انفقها بمجرد وصولي من خلال الشراء من هؤلاء الباعة , ولا ادري كيف كنت لا اصاب بالامراض من جراء تناول الاشياء التي يبيعونها . وعند الظهر كنا نخرج من المدرسة انا وبيتر وكان يجب علينا ان ننتظر حوالي ساعة الى ان يأتينا الباص . وكان يوجد مقابل المدرسة مقهى (قهوة) كنا نذهب اليه انا وبيتر نجلس على مقاعدها المصنوعة من الخشب والجينكو بانتظار الباص . وفي كل يوم كنا نجلس فيه بالقهوة كان بيتر يطلب لنفسه بطل بيبسي وبطل اخر لي . في الايام الاولى للدوام كنت اشكر بيتر على هذه الدعوة واعتذر عن قبول البيبسي واقول له (شكرا , لماذا هذه التكلفة ؟) لكنه كان يصر علي بان اقبل ذلك . كان بطل البيبسي يباع في ذلك الوقت بميبلغ 15 فلس , اي ان بيتر كان يتكلف 30 فلس لقاء شراءء بطلين بيبسي يوميا . مرت ايام والحال يتكرر واعتذاري يتكرر دون فائدة , حتى اعتقدت بان صديقي لابد وان يكون غنيا واهله يعطوه الكثير من النقود وانه ايضا كريما جدا بحيث يدعوني يوميا لتناول بطل بيبسي على حسابه . لم يخطر على بالي قط بان جلوسنا بالقهوة كان لابد وان يرافقه طلب شيء , وان بيتر كان يدرك هذا الامر لانه اكبر مني , لذلك كان يطلب البيبسي لنا اضطرارا وليس تكرما . ولابد بانه اخبر اهله بذلك فاصبحوا يعطوه ما يكفي من النقود لان يشتري بطلين بيبسي من القهوة يوميا . وطوال عام دراسي كامل ظل هذا الحال يتكرر دون ان يأتي يوم قط اشتري له انا بيبسي بالمقابل , وحتى وان اردت ان افعل ذلك فمن اين أتي بما يكفي لشراء البيبسي ويوميتي لا تكفي حتى لشراء بطل واحد لي . وحين كبرت وادركت حقيقة الوضع كم شعرت بالخجل مما كان يجري , وكم تمنيت بأن ارى بيتر ولو لمرة واحدة لكي اشكره ولكي ارد له ذلك الكرم وذلك الفضل الذي كان يتفضل به علي . بارك الله بذلك الصديق العزيز (بيتر) الذي لا ادري اين اخذته الايام , وليس بيدي الان غير ان ادعوا له بالخير والصحة والعافية والموفقية , وان شاء الله يمكنني من ارد فضل كل انسان تفضل علي في هذه الحياة التي عشتها .

وهذه صور بالاسود والابيض لمدرستي والقهوة ومدينة الزبير .




  

وسام الشالجي
15 نوفمبر 2014