اخر المواضيع في المدونة

السبت، 8 نوفمبر 2014

خواطر بالاسود والابيض - مشروع مظاهرة في الطويسة


حين وصلنا للبصرة منتقلين من بغداد سكنا بمنطقة الطويسة في دار مستأجرة تعود للسيد (احمد الخويطر) الذي كان مدرسا للغة العربية في متوسطة المربد التي سجل بها اخي الكبير . كانت الدار جميلة تقع بالشارع الرئيسي للطويسة ومحاطة ببساتين النخيل من كل جانب والبيوت الموجودة حولها بالمنطقة قليلة ومتفرقة والشوارع طينية وغير معبدة . كان يوجد مقابل بيتنا دار على بابه قطعة لازلت اتذكرها لحد اليوم باسم (جيمس جوليس) , وهو رجل كبير بالسن كان يسكن هو وزوجته لوحدهما بالدار . لا اتذكر الكثير عن تلك الايام لصغر سني في حينها , لكني اتذكر لمحات عن حياتنا هناك . في منطقة ليست بعيدة عن بيتنا كان هناك حي من الاكواخ والصرائف كنا نذهب اليه في بعض الاحيان . كان يسكنه اناس تبدوا عليهم احوال والفاقة والفقر , يعيشون مع الحيوانات من دجاج وبط وكلاب وحمير وابقار . كنت ارى اطفال ورجال يلعبون الجعاب , وقد سمعت من قبل زوجة ابي تردد كثيرا مثل (مو لعب جعاب) لكني لم ارى اشخاص يلعبونه فعلا الا هناك . كما كان هناك رجال يجلسون يدخنون ويشربون الشاي , بينما نسائهم يخبزن او يطبخن او يعملن بتعليق الاسماك على الحبال لتيبيسها . والبعض الاخر منهم يجمعون روث الأبقار ويعملون منه اقراص يضعونها تحت الشمس لكي تجف ثم يصفونها على شكل طبقات , بينما هناك من يعملن باعمال البناء في الدور التي يجري تشييدها بالقرب من الحي . كم كنت استغرب حياتهم تلك واعمالهم لاني لم ارى ابدا مثل تلك الحياة البائسة من قبل , لكني حين كبرت فهمت اوضاعهم وطباعهم وظروفهم . سكنا بتلك الدار في الطويسة حوالي سنة وبضعة اشهر ثم اصبح يتردد في البيت خبر باننا سننتقل الى دار جديدة تقع في منطقة خارج البصرة اسمها البرجسية . كان الاسم غريبا علينا ولم نسمع به من قبل وقد تصورت بانها ربما حي اخر لايختلف كثيرا عن المنطقة التي نسكنها . وقد وقعت حادثة طريفة مع هذا الامر لازلت اتذكرها جيدا . يبدو بان اخي الكبير (عصام) كان غير راضيا على مجيئنا الى البصرة وكان يتوق لعودتنا الى بغداد بسرعة . وحين سمع باننا سننتقل الى البرجسية أحس بان الهوة بين وجودنا بالبصرة واحتمال العودة الى بغداد اخذت تتسع يوما بعد يوم , وان انتقالنا الجديد هذا ربما سيزيد من صعوبتها . لذك جمعنا في احد الايام في احدى غرف البيت بالطابق الثاني وقال لنا ما يلي : (اسمعوني جيدا وافهموا ما أقوله , ان ابينا يريد ان ينقلنا الى منطقة جديدة بعيدة تقع في الصحراء اسمها البرجسية وسنششبع هناك عجاج بينما كل الناس يأكلون الدجاج , وعليه أرى بان نقوم بمظاهرة لنسمعه صوتنا ونشعره باننا نرفض هذا الانتقال ونريد العودة الى بغداد . اريد منكم ان تحفظوا ما سأقوله لكم وترددوه بالبيت , وبالذات حين يأتي ابي . علينا ان نهتف جميعا بالهتاف التالي : "مانريد البرجسية ... أنريد الاعظمية" , ولابد بان ابي حين سيسمعنا سيغير رأيه ويستجيب لطلبنا ويعيدنا الى بغداد . كنا انا واختي التي تكبرني بسنتين لازلنا صغار ولا نعي معاني الاحداث وليس في مقدورنا ان ندرك نتائج الافعال او نعترض على ما يقرره الكبار , لذلك ابدينا موافقتنا واستعدادنا للاستجابة لما يطلبه وان نقوم بترديد هذا الهتاف بالبيت . اما اخي الكبير الاخر الأصغر منه فقد استسخف الفكرة من الاساس ولم يبدي اي استعداد لتطبيقها . واستجابة للأمر اخذنا انا واختي نمشي في البيت ونردد اينما حللنا ونحن مستمتعين هتاف "مانريد البرجسية ... أنريد الاعظمية" . سمعتنا زوجة ابي وضحكت علينا كثيرا من سذاجتنا , وقد ادركت على افور بان هذا الامر حتما ليس من تدبيرنا بل من تدبير احد اكبر منا لذلك صاحتنا وقالت لنا "توقفوا ولاتسمعوا كلام احد , انا اخاف اذا سمعكما ابيكما ترددان هذا الكلام ان يزعل عليكما ويعاقبكما , لذلك حذار ان تسمعوه مثل هذا الكلام حين يأتي" . قلنا (نعم) لزوجة ابينا لكننا حقيقة اصبحنا في موقف محرج لا نعرف ماذا نفعل , هل نردد هذا الهتاف لنرضي اخينا ونغضب ابانا , ام نتجاهل ترديده فيغضب ربما اخينا منا . سلمنا امرنا الى الله وقررنا ان نترك الامور تمضي كيفما اراد . لم ينقذنا من هذا الموقف الصعب الا مصادفة بحتة , فقد جاء ابي من عمله ذلك اليوم وجمعنا كلنا في وسط الدار واخبرنا باننا سننتقل في اليوم التالي الى البرجسية وان على كل واحد منا أن يهيء اغراضه وحاجياته استعداد للانتقال . ساد الوجوم علينا جميعا وبقينا ساكتين دون ان ننبس بكلمة واحدة ثم صرفنا لكي ننفذ ما اراده . كنا انا واختي اكثر من فرحنا بما حصل لان الله انقذنا ولم نغضب ابينا بما يمكن ان نفعله , وفي نفس الوقت لم نغضب اخينا الكبير . وبهذا باءت خطة المظاهرة بالفشل وذهب كل واحد منا يعد اغراضه ويهيء نفسه للانتقال . وفي اليوم التالي اصبحنا بالبرجسية لاول مرة , وكانت حقا نقلة كبرى في حياتنا .



وهذه صور بالاسود والابيض لأخينا الكبير عصام وهو في اوائل عمره المديد ان شاء الله , وصور اخرى عن حياتنا بالطويسة والمناطق المحيطة بنا في تلك الايام .






وسام الشالجي
8 نوفمبر 2014