اخر المواضيع في المدونة

الاثنين، 14 يوليو 2014

ماذا حققت حركة 14 تموز 1958 للعراق

بقلم
وسام الشاجي

بمناسبة حلول الذكرى السادسة والخمسين لحركة 14 تموز 1958 بالعراق (او ثورة 14 تموز  كما يصر البعض على تسميتها) من حق اي متتبع لحوادث التاريخ ان يتسائل عن المكاسب التي حققتها تلك الحركة بصفتها حركة تغيير تاريخية كبرى مرت بالبلد . كما ان من حق المتتبع ان يتسائل ايضا عن السلبيات , او الأثار الضارة التي تركتها تلك الحركة على اوضاع البلد لمرحلة ما بعد ذلك التاريخ . وسنحاول في هذا المقال ان نستعرض الاثار السلبية الواضحة للعيان التي حققتها تلك الحركة , او على الاقل جعلتها جزء من واقع العراق ومسلماته في مرحلة ما بعد ذلك التاريخ .

1-    انهاء الحالة الديمقراطية في البلاد : كان النظام الملكي نظام حكم ملكي دستوري يكون فيه الملك مجرد سلطة رمزية تمثل سيادة البلاد , ولا يترأس من الناحية الفعلية غير منصب القائد العام للقوات المسلحة . اما الحاكم الفعلي للبلاد فهو رئيس الوزراء الذي يختاره الملك من بين رؤساء الكتل الرئيسية في البرلمان ومن ثم يصادق على تعيينه البرلمان عن طريق التصويت ومنح الثقة . واعضاء البرلمان هم نواب يختارهم الشعب بصورة مباشرة عن طريق الاقتراع الشخصي السري . غير ان اهم ثغرة في هذا الوضع كانت منح الملك صلاحية اقالة رئيس الوزراء وحل البرلمان والدعوة الى انتخابات جديدة في اي وقت يرى فيه ان المصلحة العامة او الضرورة تستدعي ذلك . لقد كان هذا هو المدخل الذي جعل اعداء ذلك النظام يتهمونه فيه بان الديمقراطية التي كان ينتهجها لم تكن ديمقراطية حقيقية . من ناحية اخرى فان طبيعة الاوضاع في العراق في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى من انتشار للفقر والجهل وتفشي الأمية جعلت الفئات التي يمكن ان تصل للبرلمان , وبالتالي هي التي تحكم , محصورة بالطبقات العليا من المجتمع والاثرياء ورؤساء العشائر من الاقطاعيين والملاك . كانت هذه هي شائبة اخرى أتهم فيها الحكم الملكي بانه كان نظام يمثل الاغنياء ويعمل لصالح الاغنياء متشبها بانظمة الحكم الغربية التي كان الحكم فيها محصورا بطبقة النبلاء . ان من يتهمون النظام الملكي بهذا ينسون بان الدولة العراقية تأسست عام 1921 ونفوسها لا يتجاوز 3 ملايين نسمة , وان نسبة المتعلمين والمثقفين فيها لم يتجاوزوا 2.5% , وان نسبة الفقر فيه حسب القياسات العالمية تصل الى 95% . لذا فان من الطبيعي ان يكون اعتماد النظام في بناء دولة حديثة ورصينة بالضرورة محصورا بشرائح صغيرة من المجتمع . ولو قورن حال الدولة العراقية بين ليلة تسلم الملك فيصل الاول قيادتها وبين ليلة 14 تموز 1958 لكانت المقارنة كمن يقارن السماء بالارض . ولم تتح للنظام الملكي بعد تكون طبقات جديدة شابة من المتعلمين والمثقفين الفرصة في ان يستقطبهم ويزجهم في مؤسسات الحكم لان الأحزاب والحركات السياسية التي تأسست في عقدي الثلاثينات والاربعينات والتي عادت ذلك النظام سارعت الى استقطاب تلك الشرائح بسبب طروحاتها التي داعبت فيها مشاعر هؤلاء الشباب . وبدلا في ان تساهم هذه الدماء الجديدة في بناء البلد جرى زجهم في ممارسات حركية عدائية ضد نظام الحكم مما جعل الكثير منهم يكون مصيره السجن او الهرب من البلاد . ومع ذلك فان الديمقراطية في العهد الملكي , ومهما كانت سلبياتها فانها كانت تؤشر وجود حالة صحية مقبولة في مجتمع خرج للتو الى العالم بعد احتلال اجنبي دام لثمانية قرون . ولو انتقلنا بالمقارنة الى الوضع الذي أل أليه البلد بعد حركة 14 تموز 1958 لوجدنا بانه اصبح حكما فرديا ديكتاتوريا تنحصر معظم الصلاحيات فيه بيد شخص واحد هو رئيس الوزراء , اضافة الى صلاحيات محدودة انيطت بأشخاص موالين له . وقد الغيت كل المؤسسات البرلمانية , وألغي منصب رئيس البلاد وانيط هذا الموقع بمجلس سيادة لا حول له ولا قوة ولم يعرف عنه ممارسة اي سلطة او صلاحية طيلة فترة وجوده . كما ان القيادة العامة للقوات المسلحة ووزارة الدفاع أنيطت هي الاخرى بذات الشخص الذي يحكم البلاد . كما فقد القضاء استقلاليته واصبحت الكثير من صلاحياته محصورة ايضا بشخص رئيس الوزراء . ان خير دليل على عدم القبول بهذا النظام , او على الاقل طبيعة الحكم التي انتهجها هو سرعة اندلاع محاولات الانقلاب عليه . فبعد اقل من تسعة شهور حصلت محاولة انقلابية كبيرة عصفت بالبلاد بشدة اعقبتها موجات تصفية شنيعة من خلال اصدار احكام الاعدام السريعة والتصفيات الجسدية للمعارضين . وبصورة عامة يمكن القول بان الديمقراطية التي كانت سائدة في العهد الملكي , حتى وان كانت ديمقراطية عرجاء , فانها انتهت تماما وصفيت ودفنت الى الابد بعد حركة 14 تموز 1958 . وبعد ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا لم يعرف في العراق أي وجود لديمقراطية حقيقية يجري فيها اختيار سلس لمن يحكم البلاد كما كان الحال في النظام الملكي .
2-    اجازة القتل الغير مشروع : رافقت وقائع حركة 14 تموز عام 1958 حصول عمليات قتل جماعية ومنفردة في وضح النهار وامام الملأ من غير مسوغ شرعي ولا قرار من جهة شرعية . كانت اكبر هذه الحوادث عملية اعدام العائلة المالكة برمتها في الساحة الامامية لقصر الرحاب الملكي مع بعض حاشيتها من خدم وحراس . كما جرت بعدها حوادث قتل متفرقة هنا وهناك مات جرائها بعض رموز النظام الملكي وموظفيه حتى من غير سبب مبرر . والخطير في هذا الامر ان القتلة لم يحاسبوا ولا حتى احالتهم الى مؤسسات قضائية للتحقيق في اسباب ما فعلوه . ليس هذا فقط بل ان قاتل العائلة المالكة الرئيس (النقيب) عبد الستار العبوسي قد جرى مكافأته بمنحه رتبة اضافية , كما تم تعيينه لاحقا ملحقا عسكريا فى موسكو , وبعد 8 شباط عام 1963  عين قائدا للقوة البحرية . كانت اعمال القتل الغير مشروعة هذه وعدم المحاسبة عليها هي اول أذن رسمي يصدر من السلطات العراقية بجواز القتل اذا كانت هناك مبررات يمكن اعتبارها وطنية تدعوا الى ذلك . ووفق نفس هذا التصور اعتبر الكثير من الناس عمليات القتل التي جرت خلال حركة 14 تموز , وفي كل الحركات الانقلابية التي جرت بعدها هي عمليات قتل تبررها الشرعية الثورية . وفي ظل مثل هذا الاذن المصرح به من قبل سلطات رسمية ونفس التصور الذي شاع بين الناس جرى لاحقا في العراق قتل مئات الالوف من العراقين في حالات وظروف مشابهة , وهناك اعداد هائلة من المفقودين الذين لا يعرف مصيرهم بالرغم من مرور عشرات السنين على اختفائهم . والاسوأ من هذا كله هي عمليات التمثيل بالجثث , فقد جرى سحل الامير عبد الاله رحمه الله في الشوارع وتعليق جثته وتقطيع اجزاء جسمه من قبل جمهور غوغائي في حالة لايمكن وصفها بغير اعمال حيوانية , بل تأنف حتى الحيوانات من عملها . ونفس الامر جرى للمرحوم نوري السعيد وابنه صباح رحمهما الله , بل ان نوري السعيد قد جرى نبش قبره بعد ان دفن فيه في صباح اليوم الثالث للثورة واستخرجت الجثة وسحلت في الشوارع لساعات طويلة ثم احرقت بما لا يمكن تبريره وفق اي شرعية ثورية مزعومة . ادت هذه الحوادث الى شيوع عمليات السحل حتى للأحياء في الاشهر اللاحقة لحركة 14 تموز بما يمكن اعتباره مرحلة سوداء من تاريخ العراق .
3-    تحويل العراق من دولة منتجة الى دولة مستوردة للغذاء . كان العراق قبل حركة 14 تموز 1958 بلد مصدر لكل المنتجات الزراعية بما في ذلك كافة انواع الحبوب وبالذات الحنطة والشعير والرز . وبعد تلك الحركة وتطبيق قانون الاصلاح الزراعي الذي شرعته الدولة بدأت مؤشرات الانتاج تهبط باضطراد حتى تحول العراق في خاتمة المطاف الى دولة مستوردة لكل المنتجات الزراعية . يعزي البعض هذا التحول الى وجود الاقطاع قبل تلك الحركة الذي كان يقسر الفلاحين على العمل باساليبه الظالمة لزيادة الانتاج دون مراعاة لقدراتهم وصحتهم . ان هذا التبرير هو في الواقع اقبح من السبب نفسه لانه يدلل على ان العراقيين هم اناس كسالى لا يعملون الا بالقوة . في الواقع ان العلة لا تكمن في هذا ابدا بل بقانون الاصلاح الزراعي نفسه لانه سحب الاراضي الشاسعة التي كانت من ملكيات الاقطاعيين ووزعها بشكل قطع صغيرة على الفلاحين . لقد وجد معظم الفلاحين الذين تملكوا الارض بان اراضيهم صغيرة ولا يجدي زرعها لانه لن يحقق لهم فوائد كبيرة , لذلك فان معظمهم باعوها او تركوها وهاجروا الى المدن حيث ان ابسط المهن هناك تحقق لهم ارباح تفوق زراعة تلك الاراضي الصغيرة . لقد دمر قانون الاصلاح الزراعي في العراق الزراعة في هذا البلد وحول العراق الذي ظل بلد زراعي لألاف السنين الى بلد غير زراعي ومتصحر ومستورد لكل غذائه من الخارج .
4-     ايقاف الحركة التنموية الانفجارية . أسس العهد الملكي ما بين الاعوام 1951- 1958 مؤسسة (مجلس الاعمار) وخصص له في البداية 100% من العائدات النفطية , ثم خفضها في الثلاث سنوات الاخيرة الى 70% . وضمن هذه المدة وهذه التخصيصات نفذ مجلس الاعمار مشاريع تنموية هائلة قفزت بالبلاد قفزات كبيرة من بينها بناء السدود والجسور والمستشفيات والمصانع والمحطات الكهربائية والكليات والمدارس ومشاريع الاسكان وتعمير المدن وغيرها . كما وضع المجلس الخطط والدراسات لمئات المشاريع التي لم ترى النور بسبب الغاء المجلس بعد 14 تموز . وقد ظلت الكثير من المشاريع تنفذ باستمرار , ومنها مشاريع وضع الحجر الاساس لها في العهد الجمهوري الاول مثل مدينة الطب وجامعة بغداد والجسر المعلق وقناة الجيش وخط بغداد البصرة الحديدي . كما ان هناك مشاريع نفذت بعد مرور عشرات السنين على الغاء ذلك المجلس مثل طرق الخط السريع والجسر ذو الطابقين وبرج وساعة بغداد .  ولحد يومنا هذا فان اي مسؤول جديد يستلم مسؤولية التطوير والتعمير في البلد نجده يعود فورا الى سجلات وخطط ذلك المجلس لتنفيذ ما لم ينفذ منها لحد الأن . ومن الجدير بالذكر انه بعد حركة 14 تموز 1958 جرى الغاء مجلس الاعمار وفق مبرر مضحك , اذ اعتبرت كل مشاريعه المنفذة والتي خطط لها هي ليست غير مشاريع تخدم الاستعمار .
5-    فقدان استقلالية القضاء : كان القضاء في العهد الملكي مستقلا استقلالا تاما عن بقية السلطات في الدولة . وكانت المؤسسات القضائية مؤسسات محترمة لها هيبتها يديرها قضاة مختصون لا يتدخل في قراراتهم احد ولا حتى الملك نفسه الذي يعتبر أعلى سلطة في البلاد . وبعد حركة 14 تموز تشكلت لاول مرة المحاكم العسكرية التي أخذت تنظر في الشؤون المدنية , والتي كان يترأسها ضباط غير مختصين مؤهلهم الوحيد هو الولاء لزعيم الدولة . وحين نتابع احكام تلك المحاكم وطبيعة قرارتها وحتى ما جرى في جلساتها نجد بانها كانت محاكم غير مستقلة وان كل ما حصل فيها لم يكن غير محاكاة لمشاعر وسياسة رئيس الدولة , وحتى مزاجياته في بعض الاحيان . لقد ادى هذا التحول الخطير في القضاء الى شيوع مثل هذا النوع من المحاكم في العراق لعقود بعد تاريخ تلك الحركة . ومن هذه المحاكم على سبيل المثال محكمة الثورة سيئة الصيت التي تأسست بعد عام 1968 , والتي كانت قراراتها قطعية ونهائية وغير قابلة للنقض والتمييز ولا يحق لمن يحال اليها حتى حق الدفاع عن النفس . كل هذه الأوضاع السلبية المدمرة التي تفشت في القضاء العراق كان سببها الضربة القوية التي تعرض لها هذا القضاء بعد 14 تموز , مما جعل مصير الانسان وشؤون حياته اذا ما اتت بها الاقدار الى المحاكم ليست الا ضربة حظ في هذه الحياة .
6-    تشكيل المليشيات : تأسست في العراق بعد حركة 14 تموز مليشيا تحت تسمية (المقاومة الشعبية) والتي انضم اليها الشباب من كل الجنسين . كان افراد هذه المليشيا اشخاص مسلحين ويرتدون ملابس خاصة ومخولين بالمراقبة والتفتيش ونصب السيطرات وحتى الاعتقال , وكانت تتواجد في الشوارع والمناطق بذريعة حفظ الامن وحماية (الثورة) . وقد سجلت الكثير من الحوادث الشنيعة التي ارتكبها افراد هذه الميليشيات , خصوصا في عام 1959 الذي يعتبر عام فوضوي كبير مر بالعراق جرت خلاله حوادث قتل جماعية كبرى وسحل في الشوارع وتعليق على الاعمدة وغيرها . ان تشكيل هذه الميليشيات من قبل الدولة كان خروج عن المألوف والشائع في المجتمع العراقي في كون الجيش والشرطة هي المؤسسات المسلحة الوحيدة في الدولة التي يحق لها حفظ الامن والدفاع عن الدولة والنظام . وقد اعطى هذا الفعل المبرر القانوني لكثير من الميليشيات التي عرفها الناس فيما بعد في السنوات اللاحقة مثل تشكيلات كتائب الشباب وكتائب الدفاع المدني في الستينات اثناء العهد العارفي , وقوات الجيش الشعبي بعد عام 1970 , وما لا يحصى ويعد من الميليشيات المسلحة بعد عام 2003 . ولو لاحظنا الاثار السلبية التي تركتها هذه الميليشيات على المجتمع لوجدنا بان اضرارها كانت فادحة , كما انها لم تخدم مطلقا الغايات التي اسست من اجلها لانها كانت وستظل وحدات غير مدربة وغير منضبطة سرعان ما تفر وتشتت حين تحتدم المواقف وتشتد الصعوبات .
7-    تدمير النظام التعليمي : كان المؤسسات التعليمية في العراق مؤسسات ذات سمعة دولية كبيرة وتتمتع بمكانة مرموقة بين كل المؤسسات التعليمية في العالم المتقدم . وكانت شهادة الثانوية العراقية لوحدها تعتبر شهادة تؤهل من يحملها للتعيين بوظائف جيدة , كما كان من يحملها مؤهلا للقبول في اي كلية عالمية دون اختبار لانها كانت تعادل بشهادة الثانوية البريطانية . وبعد حركة 14 تموز 1958 مني القطاع التعليمي بالعراق بضربة قاتلة اسقطته من القمة الى الحضيض حين أمر زعيم البلاد باعتبار جميع طلبة العراق في العام الدراسي 1957 – 1958 ناجحين , وسمي ذلك العام بـ (عام الزحف) . لقد أضر هذا الفعل بسمعة العراق العلمية الرصينة مما جعل الجامعات العالمية ترفض قبول خريجي الدراسة الاعدادية من تلك السنة , وان تفرض بعدها اجراء اختبار على كل طالب يتقدم اليها من العراق . والمضحك ان عدد كبير من الطلاب طالبوا في العام اللاحق بإعادة ما سمي بالزحف , فكان الطلاب ينظمون تظاهرات ومسيرات يطلبون فيها بتنجيحهم من مرحلتهم الدراسية الى المرحلة اللاحقة على نفس الشاكلة,  وكان شعار تلك التظاهرات في حينها (يازعيم للأمام نريد الزحف مثل العام) .
8-    انهاء التعددية الحزبية : كانت الاوضاع السياسية في البلاد اثناء العهد الملكي تتمتع بالحرية في تأسيس الاحزاب وعقد التنظيمات طالما كانت تخدم الدولة العراقية وتنادي بالولاء والاخلاص لها . وكانت هناك قوانين رسمية مشرعة لهذا الغرض تتضمن تقدم الحزب او التنظيم بطلب لاجازته رسميا بعد ان يعرض اهدافه وبرنامجه ومصادر تمويله . وكانت الكثير من الاحزاب والتنظيمات السياسية مجازة ومفتوحة بناء على ذلك وتشارك بالحياة السياسية بالبلاد وترشح ممثليها للبرلمان . غير ان اعداء النظام الملكي كانوا يتهمونه بانه كان لا يجيز احزاب وحركات معينة مثل الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي وبعض التيارات القومية ويعتقل اعضائها ويحيلهم الى المحاكم . نعم لقد كان هذا صحيحا وفق للقوانين النافذة لان تلك الحركات السياسية كانت تعتبر حركات معادية وغير وطنية طالما انها تنادي باسقاط النظام بالقوة المسلحة وطالما ان أهدافها مأخوذة من حركات لا تمت للعراق بصلة وطالما كان تمويلها يأتي من الخارج . ومع ذلك فاننا نجد بان الحياة السياسية اصبحت لا تتمتع بالحرية الكاملة بعد حركة 14 تموز بل بالعكس فان معظم احزاب العهد الملكي منعت من العمل بالاضافة الى حزب البعث والتيار القومي . الحزب الوحيد الذي ظل يعمل بالعلن في الساحة هو الحزب الشيوعي العراقي . ولو قارنا الحرية السياسية قبل الحركة وبعدها لوجدنا بانه لا مجال ابدا للمقارنة .
9-    الترويج لعبادة الشخصية : بعد حركة 14 تموز بالعراق شاع لاول مرة مبدأ عبادة الشخصية وعم على جميع مرافق البلاد وطغى على كل مفرداتها . فالألقاب التي نسبت لزعيم البلاد تعددت حتى قاربت الخمسين لقب , والاشادة بعبقرية هذا الزعيم ووطنيته وحكمته وحنكته فاقت كل الحدود . فقد اصبحت صور الزعيم تملأ البلد وخطبه تذاع من الاذاعة كل يوم ضمن برنامج خاص عنوانه (اقوال الزعيم عمل وبناء) , ودور العرض السينمائي لا تبدأ قبل ان تبث شريطا عن نشاطاته ومنجزاته . اما الاغاني التي تهتف بحياته وحياة ثورته فقد انتشرت وهيمنت على كل وسائل الاعلام , ولم يبقى مطرب او شاعر او كاتب في البلد لم يتغنى بهذه الشخصية . وقد تجاوزت الاوصاف التي اطلقت عليه الكثير من المقاييس حتى وصلت الى وصفه بانه كان يفكر بالثورة على النظام الملكي منذ نعومة اظفاره , وان العناية الالهية ارسلته لانقاذ هذا الشعب وهذا البلد ويخلصه من الاستعمار وسيطرته . كان هذا الوضع يدلل على ان صاحب تلك الشخصية لم يكن انسانا متزنا بل كان مصاب بنوع من المعتوهية والغرور . ليس هذا فقط , بل ان هذه التوجهات فتحت الباب على مصراعيه لمن يسلك نفس هذا السلوك في المستقبل , حتى رأينا لاحقا رئيس النظام السابق يقتفي نفس الخطى ويتجاوز في اشاعة مبدأ عبادة الشخصية والترويج لها كل حد حتى وصلت الى مستوى التأليه , وكل هذا كان بسبب ما حدث بعد 13 تموز 1958 .