اخر المواضيع في المدونة

الاثنين، 28 أبريل 2014

الديمقراطية في العراق بين الحلم والواقع

بقلم
وسام الشالجي




(الديمقراطية) هي شكل من اشكال انظمة الحكم تتمثل في حكم الشعب لنفسه من خلال مشاركة جميع المواطنين بالحكم على قدم المساواة , إما مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم يجري انتخابهم لغرض تسيير شؤون البلاد واقتراح واقرار القوانين النافذة التي تعني بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلد . والديمقراطية بكلمة اخرى هي نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع يضمن عملية تداول السلطة سلميا وبصورة دورية . وهي أيضا مجموعة من المباديء والممارسات التي تحمي الانسان وتضمن للمواطنين القيام باي ممارسة بشكل حر ومتساوي بما في ذلك حق تقرير المصير . وتقترن الديمقراطية بمبدأ حماية حقوق الانسان الاساسية وضمان حرياته الكاملة , مثل حرية التعبير وحرية المعتقد والمساواة امام القانون وحرية تشكيل التنظيمات والتجمعات والمشاركة بصورة كاملة في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع . ومع ان الديمقراطية في أي بلد ديمقراطي تقوم على أساس حكم الأغلبية , الا ان ذلك يجب ان يكون مقرونا بضمان حقوق الفرد والأقليات لان احد المباديء الاساسية للديمقراطية هو احترام إرادة الأغلبية وفي نفس الوقت حماية الحقوق الأساسية للفرد وللأقليات. ومن هذا المنطلق تجري في البلدان الديمقراطية انتخابات دورية حرة ونزيهة تتيح المشاركة فيها لجميع المواطنين من اجل اختيار الهيئات الحاكمة التشريعية والتنفيذية , كرئيس الدولة ورئيس الوزراء واعضاء مجلس النواب . كما تجري ايضا انتخابات مماثلة في الكيانات الاصغر ضمن الدولة لاختيار الحكومات المحلية والمجالس البلدية . ويمكن الفهم من هذه المقدمة بان الديمقراطية بمعناها الحقيقي يمكن ان توجد فقط في الانظمة الجمهورية ولا يمكن تطبيقها في الانظمة الملكية حيث هناك ملك على رأس الدولة يشغل منصبه مدى الحياة . قد يبدوا هذا صحيحا للوهلة الاولى , لكن في الواقع فان الكثير من الانظمة الملكية , خصوصا تلك الموجودة في دول الغرب , قد غيرت شكل انظمتها الى انظمة ملكية دستورية يكون فيها الملك ذو صفة رمزية تمثل سيادة البلاد لكنه لا يشترك ابدا بالحكم , اشبه بالعلم الذي هو ايضا يرمز لسيادة الدولة , بينما يكون الحكم فعليا بيد رئيس السلطة التنفيذية الذي عادة ما يكون رئيس الوزراء , والذي ينتخب من قبل المواطنين بشكل مباشر او من قبل البرلمان الذي هو الاخر يجري انتخاب اعضائه من قبل المواطنين . ويرجع قيام الانظمة الديمقراطية الى عهود قديمة جدا , حيث كانت قائمة في القرن الخامس قبل الميلاد كنظام حكم في المدن اليونانية مثل أثينا . وفي العصر الحديث فان اغلب انظمة الحكم الموجودة في دول الغرب هي انظمة حكم ديمقراطية بشكليها الجمهوري والملكي الدستوري .


وعلى النقيض من الديمقراطية هناك (الدكتاتورية) والتي هي ايضا شكل من اشكال انظمة الحكم مبني على اساس وجود حكومة مركزية او حزب منفرد , عادة ما تكون واجهة لفرد حاكم (دكتاتور) يمتلك كل السلطة وجميع الصلاحيات في البلد . وقد برزت الدكتاتورية كنظام حكم سياسي في فترة ما بين الحربين العالميتين الاولى والثانية , حيث ظهرت في تللك الفترة الانظمة الفاشية في إيطاليا وألمانيا واسبانيا والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق . وقد اتسمت تلك الانظمة بسمات معينة توضح معنى الدكتاتورية كنظام سياسي مثل: نظام الحزب الواحد ، تعبئة الجماهير بايدولوجيا النظام الحـاكم ، السيطرة على وسائل الاعلام و تحويلها إلى بوق للدعاية لصالح النظام ، توجيه النشاط الاقتصادي والاجتماعي للجماهير توجها ايدولوجيا لصالح النظام الحاكم والاستخدام التعسفي لقوة الاجهزة الامنية من اجل ترويع المواطنين والسيطرة عليهم . وقد شاعت انظمة الحكم الدكتاتورية بعد الحرب العالمية الثانية في العديد من دول العالم الثالث الحديثة الاستقلال حيث غلب على اشكال الحكم في معظمها الطابع العسكري بسبب شيوع الانقلابات العسكرية كوسيلة للوصول الى السلطة وتفشي الاضطرابات السياسية فيها وتجسيم المشاكل المتعلقة بمسألة الخلافة على السلطة .

يتفق الجميع على ان نظام الحكم الديمقراطي هو اسمى وارفع انظمة الحكم التي ابتدعها الانسان في ادارة دفة اي بلد , بل وحتى في ادارة اي تشكيل او مؤسسة . ان هذا النظام يضمن امكانية تغير الحاكم , او رئيس التشكيل او الهيئة بعد خدمته فيها كرئيس لفترة معينة من الزمن تتحدد بقانون . كما تضمن الديمقراطية اعادة انتخاب هذا الرئيس في حالة اثباته جدارة عالية في الادارة لمرة ثانية , وحتى ثالثة اذا ما أجاز القانون ذلك . اما اذا فشل في الادارة وتفاقمت في عهده المشاكل فان من المتاح للمواطنين تغييره بعد انتهاء ولايته بصورة سلمية وبسهولة دون صعوبات . من هذا المنطلق يعتبر النظام الديمقراطي افضل نظام تسعى لنيله الشعوب وتناضل الجماهير في كل مكان لتطبيقه في بلدانها . لذلك ليس من الغريب ان نجد بان الديمقراطية هي هدف تنادي به جميع الحركات السياسية في المعمورة , وهي صفة تدعي بوجودها جميع انظمة الحكم في العالم بما فيها الانظمة الدكتاتورية والاستبدادية . وقد ابتدعت مثل هذه الدول وسائل جمة في اظهار نفسها على انها انظمة ديمقراطية بينما هي لا تمت الى هذا الشكل من اشكال الحكم بصلة لا من قريب ولا من بعيد . ففي مثل هذه الدول يجري التظاهر باقامة ممارسات ديمقراطية بمسرحيات هزيلة من خلال تنظيم انتخابات صورية , بينما يجري الالتفاف على المعنى الحقيقي للديمقراطية من خلال جعل الدكتاتور هو المرشح الوحيد فيها , وفي نفس الوقت ترهيب الناس وترويعهم لكي لا ينتخبوا الا الزعيم الاوحد . وفي اسوأ الحالات يتم تزوير نتائج الانتخابات بحيث لا يكون هناك فائز غير رأس الدولة .

وكما هو حال بقية بلدان العالم الثالث فان الدولة العراقية ومنذ بداية تأسيسها بالعصر الحديث تبنت مبدأ الديمقراطية كوسيلة للحكم , وظلت كافة الحكومات تدعي باعتماد هذا الشكل من انظمة الحكم على طول الخط منذ ذلك الوقت الى يومنا هذا . ولو مثلت الديمقراطية بالعراق بمقياس بارومتري لوجدنا بانها سجلت اعلى درجاتها في العهد الملكي , لكن مستوياتها ظلت تتراجع بشكل مضطرد خلال العهود الجمهورية الى ان وصلت الى أدنى مستوياتها خلال العهد السابق . لقد كان الحكم في العراق اثناء العهد الملكي نظام حكم ملكي دستوري وكان رئيس الوزراء هو الحاكم الفعلي للبلاد . لكن الدستور والقوانين السارية لم تجعل من الملك واجهة رمزية تمثل سيادة البلاد فحسب بل ابقت بيده سلطات كبيرة اهمها امكانية تدخله لأقالة رئيس الوزراء وحل البرلمان متى شاء ذلك . ان هذه الامكانية جعلت من الملك القوة الاعظم في البلاد والمتحكم الاكبر بطريقة الحكم لانه كان يقايض رئيس الوزراء ويفرض عليه ما يريده , واذا لم يذعن هذا الاخير لطلبات الملك فان سيف الاقالة وحل البرلمان عادة ما يكون مرفوعا بوجهه . وقد استخدمت هذه الصلاحيات لمرات كثيرة خلال العهد الملكي حتى لم يبقى لمنصب رئاسة الوزراء أي هيبة ومكانة على مستوى الدولة . كما ان هذه الامكانيات جعلت ايضا من الانتخابات التي تجري ليست ذات اهمية كبيرة , ولم يعد مهما اي حزب يفوز فيها واي رئيس وزراء سيجري تعيينه لأن الامر سيكون وكتحصيل حاصل , هو فرض ارادة الملك في النهاية على اي شخص يتولى مثل هذا المنصب . وقد ادت هذه الاحوال الى تذمر جموع الشعب من هذا النظام , والى كره الناس للرموز الحاكمة التي كانت تتبادل الادوار والمناصب واخذوا الناس يتهمونهم , ومن ورائهم الملك , بانهم ليسوا غير مطايا بيد القوى الاستعمارية الخارجية التي ظلت تسعى للتسلط على البلاد والتحكم به . وبرغم كل هذه السلبيات والمساويء يمكن القول , وككلمة حق , بان الديمقراطية بالعراق اثناء العهد الملكي كانت في اعلى وافضل حالاتها منذ ان تأسست الدولة العراقية عام 1921 واستقلالها عن بريطانيا عام 1932 حتى يومنا هذا .

ومع تواضع الحالة الديمقراطية في العراق اثناء فترة العهد الملكي الا ان تلك الديمقراطية اصيبت بنكسة خطيرة وقاتلة في 14 تموز عام 1958 تمثلت في تغيير نظام الحكم وتغيير شخصية الحاكم باستخدام القوة المسلحة بعيدا عن اي وسيلة من الوسائل التي اتاحتها الديمقراطية كوسائل تغيير . كما ان هذا التغير شهد عملية مؤسفة تمثلت بقتل الملك الذي يمثل رأس الدولة وافراد عائلته وبعض رموز نظامه بطريقة غير شرعية يمكن اعتبارها اول شرعنة لعمليات الخروج عن القانون . اعلن النظام الجمهوري في البلاد ونصب الانقلابيين انفسهم حكام مطلقين على البلاد واخذوا يحكمون بصلاحيات منحوها لانفسهم عن طريق اصدار المراسيم وسن القوانين دون الرجوع الى هيئة تشريعية معتبرين انفسهم الممثلين الحقيقين والشرعيين للشعب مستفيدين من روح التذمر التي كانت قائمة في نفوس المواطنين تجاه العهد الملكي ورموزه . فقد وضعت السلطة جميعها تقريبا بيد شخص رئيس الوزراء والذي اصبح نفسه القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع وكالة . اما على مستوى الرئاسة فقد تم تشكيل مجلس سيادة يرأسه ضابط ذو رتبة عالية وفيه ثلاثة اعضاء يمثلون الطوائف الرئيسية بالبلد (الشيعة , السنة , والأكراد) , لكنه كان بدون صلاحيات وبلا سلطة , بل وحتى بلا صفة سيادية ولو رمزية . كما ان القضاء فقد لاول مرة استقلاليته لانه اصبح مرتبطا بالسياسة , فقد تشكلت لأول مرة المحاكم العسكرية واخذت هي التي تنظر بالقضايا المدنية . وحتى المحاكم العادية فان أيادي السلطة كانت تتدخل فيها لفرض رؤيتها عليها . وعلى مستوى التنظيمات السياسية فان اغلب الاحزاب اصبحت محظورة باستثناء حزب واحد هو الحزب الشيوعي العراقي . وقد اختفت كلمة (الديمقراطية) تماما عن القاموس السياسي وادبيات الحكم بذلك العهد واعتبرت جميع المؤسسات الديمقراطية الدستورية مثل البرلمان وعمليات الانتخاب بدع دخيلة من وضع الاستعمار . وقد أصدر النظام الجديد دستور مؤقت يجسد طبيعة نظام الحكم كشكل من اشكال الانظمة الدكتاتورية , موعدا الشعب بانه سيتم اصدار دستور دائم واقامة المؤسسات الدستورية في اقرب فرصة لكن ذلك لم يتم ابدا . وحتى على مستوى طروحات ذلك النظام لم يجري التطرق ابدا الى الفترة التي سيقضيها رئيس الوزراء بالحكم , ولا الى من سيخلفه في حالة اختفائه عن مسرح الاحداث لاي سبب من الاسباب مما يدلل على ان من وصلوا للسلطة كانوا ينوون البقاء فيها حتى أخر حياتهم . وبالرغم من بعض الشعبية التي حصل عليها هذا النظام , خصوصا من طبقة الفقراء لقيامه بتوزيع الاراضي والدور السكنية عليهم وتحريرهم من الاقطاع , الا انه يمكن القول بان النظام الذي حكم العراق بعد 14 تموز عام 1958 كان اول نظام حكم دكتاتوري عرفه البلد خلال العصر الحديث , فالسلطة كانت كلها متركزة بيد رئيس الوزراء حيث كان هو السلطة التشريعية وهو السلطة التنفيذية وهو من يتحكم بكل شيء بالبلاد .

وفي 8 شباط عام 1963 جرت عملية انقلابية اخرى قضت على معظم الرموز الحاكمة التي سادت في البلاد خلال فترة العهد الجمهوري الاول التي استمرت لاربع سنوات ونصف تقريبا . ومرة اخرى تم تغيير الوجوه الحاكمة بطريقة غير ديمقراطية تشبه الى حد كبير الطريقة التي جرت في بداية العهد السابق , كما جرى تصفية الشخصيات الحاكمة بسرعة بقرار من الانقلابيين وبمحاكمة صورية لم تدم اكثر من دقائق . وقد شهدت البلاد خلال هذا العهد فوضى سياسية كبيرة وتدهور بالاوضاع الامنية وغياب سيادة القانون وتشرذم مراكز القوى مما ادى الى قيام عملية انقلابية اخرى بعد عدة شهور . لم تغير الحركة الانقلابية الثانية كثيرا من طبيعة هذا النظام لكنها اعادت تقسيم مراكز القوى وغيرت بعض الوجوه مما جعل النظام الحاكم اكثر تماسكا والحالة الامنية افضل استقرارا . كما لم تشهد الأوضاع الجديدة اي تحسن في الحالة الديمقراطية بالبلد , فقد ظلت المؤسسات الديمقراطية الدستورية غائبة عن البلاد وبقت عمليات التنصيب واشغال المناصب الحاكمة تجري من خلال اصدار المراسيم الرئاسية والتكليف المباشر بعيدا عن اي ممارسة ديمقراطية . وفي مرحلتي هذا العهد ظلت جميع الاحزاب والتنظيمات السياسية محظورة باستثناء الحزب او التنظيم الذي يقود الدولة . غير ان ما يميز هذا العهد الجمهوري الثاني هوان قبضة رأس الدولة على السلطات خفت قليلا اذا ما قورنت بمستوياتها خلال العهد الجمهوري الاول , حيث جرى توزيع الكثير من الصلاحيات ومنحها الى رئيس الوزراء وبقية الوزراء . وفي كل الاحوال يعتبر نظام الحكم في العراق خلال هذه الفترة هو شكل من اشكال الحكومات التسلطية التي لا تمت الى الواقع الديمقراطي الحقيقي بأي صلة .

وبعد عشر سنوات بالضبط من الأنقلاب على الحكم الملكي وقيام النظام الجمهوري , في 17 تموز 1968 جرت عملية انقلابية رابعة استهدفت تغيير الاوضاع وتبديل الرموز الحاكمة . ومرة اخرى قام نظام جديد بزعامة حزب منفرد لم تمارس فيه اي عملية ديمقراطية لا في عملية انتخاب من يشغل المناصب العليا في الدولة , ولا في اختيار ممثلين للشعب في هيئة تشريعية , ولا في اجراء استفتاء على دستور او قوانين نافذة . ويتميز هذا العهد الجديد بانه مقسوم الى فترتين , الاولى (ويمكن تسميتها بالعهد الجمهوري الثالث) استغرقت 11 سنة للفترة من 1968 الى 1979 تميزت بان الحكم فيها لم يكن فرديا بل كان جماعيا بشكل او بأخر مع اطلاق قدر محدد من الحريات لتظيمات معينة أئتلفت مع الحزب الحاكم بجبهة وطنية . تلت هذه الفترة مرحلة ثانية هي العهد الجمهوري الرابع امتدت للفترة من 1979 الى 2003 تميزت بمركزية شديدة وحكم فردي بما يشكل فترة دكتاتورية جديدة . فقد كان رأس الدولة يمسك بجميع مفاصل الحكم ويقود جميع المؤسسات العسكرية وشبه العسكرية ويترأس جميع الأجهزة الأمنية والاستخبارية ويخضع الناس لسلطاته بالقوة ويدير البلد بسياسة تسلطية شديدة . ولو قورنت دكتاتورية هذه الفترة مع مثيلتها التي سادت خلال العهد الجمهوري الاول لكانت المقارنة تشبه مقارنة طفل صغير يحبو على رجليه برجل كبير بالغ . واسوأ ما ميز هذه الفترة هي الحروب التي اشتعلت مع دول الجوار (ايران والكويت) والتي لم يكن من مبرر قوي لها غير كونها تخبطات من فعل رأس النظام الذي اراد ان يصنع لنفسه مجد شخصي بها بما يجعل منه قائد تاريخي جلبته الاقدار لأحياء امجاد هذه الامة . وقد خسر العراق نتيجة هذه الحروب اكثر من مليون قتيل وجريح ومعوق , اضافة الى خسارة مئات المليارات من الاموال التي ظل معظمها ديونا مسجلة على البلد . كما عانى الشعب خلال هذه الفترة من ويلات حصار اقتصادي لم يسبق له مثيل بالتاريخ دمر النفوس وذهب بالأخلاق وحطم كل اركان الشخصية العراقية . كل ذلك حدث بسبب غياب الحريات وانعدام الديمقراطية وعدم قدرة احد على مناقشة الحاكم او الاعتراض على قراراته حتى تحول البلد الى ركام بعد ان كان الدولة الاولى بالشرق الاوسط .

لم ينتهي العهد الجمهوري الرابع , وما كان لينتهي ابدا الا بحرب شنت على العراق من الخارج بقيادة الولايات المتحدة الامريكية بحجة تحرير العراق وتجريده من اسلحة الدمار الشامل . ومع ان البلد خضع للغزو والاحتلال الا ان الناس تنفسوا الصعداء بعد هذه الحرب وظنوا بانهم سيحصلون اخيرا على حرية لطالما انتظروها وان الديمقراطية ستسود بالبلد وان الوئام والسلام والتطور والازدهار سيعم في كل مكان وركن فيه . غير ان ما حصل كان غير هذا بالمرة وانقلبت الاحوال بالضد من كل شيء حلم به العراقيين . فبدلا من الوئام غاب الامن وانتشرت الجريمة المنظمة ولم يعد الانسان يأمن لا على حياته ولا على ملكياته ولا على ماله ولا على اي شيء اخر . وبدلا من السلام اندلعت العمليات المسلحة في كل مكان بذريعة مقاومة المحتل وانتشرت الميليشيات المسلحة التي اخذت تتسلط على الناس وتتحكم في المناطق التي تسود فيها وتسير الناس وفق عقائدها ورؤيتها . وبدلا من التطور والازدهار جرى سرقة كل ممتلكات الدولة وجرى تهريبها الى دول الجوار وبيعها باموال بخسة , وتم تدمير كل شيء في العراق بذريعة الانتقام من العهد السابق ابتداء من بنيته التحتية الاساسية الى مصانعه ومؤسساته ودوائره حتى غدى البلد في اسابيع قليلة خواء في خواء . ومع ذلك ظل الناس يحلمون بنهوض البلد من جديد وتثبيت اركان الديمقراطية في العراق خصوصا وانه قد جرى احتلاله من قبل بلد يعتبر نفسه حامل لواء الديمقراطية في العالم والمدافع الحقيقي عنها . وبعد فترة من الادارة الاجنبية المباشرة واربع حكومات متعاقبة وثلاث انتخابات واستفتاء على الدستور لم تكن النتائج غير شيوع التفرقة الطائفية والعنصرية بشكل لم يكن في التصور ابدا , كما اصبح البلد يحكم بعقلية التسلط والتعصب الديني والمذهبي وصارت القوانين التي تشرع ابعد ما تكون عن مباديء حقوق الانسان وانتشرت التصفيات الجسدية لكل صوت معارض . كما انتشر الفساد في كل مفاصل الدولة واخذ المال العام يسرق بالمليارات وليس بالملايين , واصبح هدر المال العام خاصية منتشرة في كل مؤسسات الدولة مع الغياب التام لكل رقابة او حساب . كما قتل مئات الالوف من الناس نتيجة للعمليات الارهابية والتفجيرات التي اصبحت وسائل التعبير الوحيدة في الاعتراض على اساليب الحكم حتى اصبح في النهاية الكل يحارب الكل .

بعد هذا الاستعراض عن المراحل التي مرت بها الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها حتى يومنا هذا يمكن الاستخلاص بان الديمقراطية بمعناها الحقيقي كانت غائبة تقريبا عن جميع العهود التي مرت خلال هذه الفترة . وقد يلوم لائم الحكومات المتعاقبة لهذا الامر ويعتبر غياب الديمقراطية هو نتيجة لصعود الحكومات الاستبدادية للحكم ووصول قادة دكتاتوريين للموقع الاول في الدولة , لكن الحقيقة هي ليست هذه فقط وان الشعب العراقي نفسه لا يمكن ان يكون خارج اللوم , بل ربما هو الطرف الرئيسي المسؤول عن هذه النتيجة . ولفهم هذه الحقيقة واستيعابها لابد من النظر الى الملاحظات التالية :

1- عدم اتباع الوسائل الديمقراطية في النضال من اجل التغيير .
كان الحكم الملكي يحمل قدرا محدودا من الديمقراطية , وبدلا من ترسيخ دعائم هذه الديمقراطية وتقويتها من خلال ممارسة وسائل الاعتراض التي تتيحها هذه الديمقراطية على كل تصرف كانت تمارسه الحكومة لا ينصب في مصلحة البلد او لا يخدم جموع الشعب نجد ان وسائل الاعتراض ظلت محصورة بالمحاولات الانقلابية والممارسات الخارجة عن القانون . كان من الممكن ابقاء النضال من اجل التغيير محصورا بالطرق الديمقراطية من خلال التظاهر والاعتصام والاضراب ومراقبة الانتخابات واختيار العناصر النزيهة والمخلصة للصعود للبرلمان . وحتى في ظل اجواء تسلط الحكومة وعدم اتاحة الفرص لصعود العناصر الوطنية وتزوير الانتخابات فان استمرار الضغط بهذا الاتجاه كان يمكن ان يؤدي الى نتيجة حتما ويصنع التغيير بالاخر حتى وان دام النضال من اجل هذا لعشرات السنين . لكن ومع الاسف فاننا نجد ان التفكير بالتغيير ظل محصورا في فكر الضباط المغامرين الطامحين للوصول الى السلطة بدليل حصول محاولتين انقلابيتين عامي 1936 و1941 لم تسفرا عن نتيجة , وحصول محاولة ثالثة عام 1958 نجحت في تغيير الحكم الملكي والمجيء بالحكم الجمهوري .

2- تأييد الممارسات الخارجة عن القانون .
بعد نجاح اول محاولة انقلابية في 14 تموز عام 1958 ضد حكومة شرعية معترف بها من قبل كل دول العالم نجد ان الناس قد سارعوا الى تأييدها ومباركة قراراتها والالتفاف حولها بالرغم من ان ما حصل لا يمكن اعتباره غير عملية سطو مسلح على السلطة بالقوة . كما فرح الناس في تصفية الملك وعائلته بعملية غير قانونية وقاموا بممارسات منفلتة وغير منضبطة في هذا الشأن أشعرت الانقلابيين بان الناس يؤيدونهم بشكل عارم . ان هذه التصرفات جعلت كل ضابط في الجيش العراقي يرى في نفسه الامكانية في ان يكون الرئيس المقبل للبلاد , اذ يكفي ان يقفز هذا الضابط الى دبابته ويأمر جنوده بالتوجه نحو مقر الحكومة والاذاعة ليعلن من خلالها انتهاء عهد الظلم والقضاء على الاستبداد وبدأ عهد جديد تسود فيه الحرية والديمقراطية والازدهار . ان الدليل على هذا هو كثرة المحاولات الانقلابية الفاشلة التي اخذت تندلع في العراق والتي اوصلت الكثير من الضباط الى منصات الاعدام بدلا من كرسي الرئاسة . ما من شك ان السبب في كل هذا هو انسياق الجماهير وراء عواطفها وسرعة تأييدها لأي حركة انقلابية دون الامعان بالنظر لنتائج مثل هذه الانقلابات وماهية الاشخاص الذين خططوا لها ونفذوها وصعدوا للسلطة نتيجة لها .

3- تغليب المصالح الضيقة على المصلحة الوطنية الكبرى .
حصلت الحكومة في العهد الجمهوري الاول على تأييد شعبي كبير بالرغم من ان الجميع يقر ويعترف بان من وصل الى السلطة في هذا العهد كانوا ضباط انقلابيون وان نظام الحكم الذي تأسس نتيجة لها كان حكما دكتاتوريا وفرديا . ان تأييد الناس لهذه الحكومة كان أت من قيام السلطة ببعض الاجراءات التي جاءت لصالح الفقراء والطبقات المسحوقة كتوزيع الدور والاراضي عليهم والقضاء على الاقطاع . ليس هناك شك في ان تلك القرارت هي من صالح الطبقات المحرومة وكانت في محلها تماما , لكن هذه المكاسب كانت حقا شرعيا لجماهير الشعب وليست فضل من حاكم او سلطة . ان مقايضة الناس لهذه المكاسب بأظهار التأييد لحكومة دكتاتورية كان ليس في محله ابدا وادى الى ألباس ثوب الشرعية لحكومة وصلت للسلطة بطرق غير شرعية .

4- انقسام الشعب العراقي وعدم توحد كلمته .
لم تكن في يوم من الايام كلمة الشعب العراقي متوحدة ومتفقة على شيء ما في السياسة والحكومة . ففي كل حقبة او عهد يمر بالبلاد كان هناك فئة (او فئات) من الشعب تؤيد النظام الحاكم بقوة وتدعم كل قراراته , بينما نجد فئات اخرى تختلف مع ذلك النظام وتسعى للخلاص منه واسقاطه . ان هذ الوضع جعل من الشعب العراقي منقسم على نفسه على طول الخط . وقد يقول قائل بان سبب هذا هو تكون الشعب العراقي من قوميات متعددة واديان متباينة ومذاهب مختلفة . نعم هذا صحيح , لكن هذا لا يبرر الاختلاف في الاهداف السياسية لان الهدف والغاية واحدة وثابتة وهي نيل الحرية كطريقة عيش والحصول على الديمقراطية كنظام حكم وترسيخ حقوق الانسان كنظام اجتماعي . ان هذه الاهداف لا يمكن ان يختلف عليها اثنين مهما اختلفا بالعرق او الدين او المذهب . لكن ما كان يحصل بالعراق هو ان الجماهير كان يغلب عليها التفكير الفئوي على حساب المصلحة السياسية للمجموع بحيث نجد اي حاكم يصل الى الحكم يصبح فورا مؤيدا من كتلته الفئوية حتى وان كان ذلك على حساب اهداف ومصالح الشعب . لهذا السبب كان الشعب العراقي منقسما باستمرار على نفسه , وسيبقى كذلك طالما ظل محتفظا بتفكيره وسلوكه هذا .

5- الاذعان للانظمة الدكتاتورية والخنوع لها .
ان الشعوب المناضلة من اجل حقوقها لا تتوانى من تكبد الخسائر في سبيل نيل حرياتها والوصول الى مبتغاها , خصوصا اذا ما كانت كلمتها موحدة وغايتها متفق عليها . غير ان تفرق الكلمة وضياع الاهداف وتبددها كثيرا ما يكلف الشعوب خسائر اكثر مما يمكن ان تدفعها لنيل حريتها . ان اي حكم دكتاتوري لا يمكن له ان يستمر ويتسلط على البلاد لو شعر بان جموع الشعب ترفضه بقوة وتسعى للتخلص منه وأسقاطه باصرار . غير ان ما حصل خلال التجارب الدكتاتورية التي مرت بالبلاد هو ان الناس خنعوا وخضعوا لتلك الانظمة بشكل او بأخر . لقد كانت فاتورة هذا الخنوع والخضوع باهضة دفعها الشعب العراقي وفقد بسببها جموع هائلة من مواطنيه . ولو وجهت هذه الخسارة باتجاه محاربة تلك الأنظمة والنضال لاسقاطها لكلف ذلك ثمنا اقل بكثير من كلفة الخنوع لها . فعلى سبيل المثال فقد الشعب العراقي نتيجة لخنوعه لقرارات خوض حروب لا طائلة منها مئات الالاف من زهرة شبابه وخيرة ضباطه , ولو تمرد الشعب على تلك القرارت وزحف باتجاه اسقاط النظام الحاكم لكانت الخسارة التي سيتكبدها اقل بكثير .

6- الظن بان الديمقراطية تتعارض مع احكام الدين الاسلامي .
يظن الكثير من الناس بان فكرة الديمقراطية هي فكرة دخيلة على المجتمعات العربية والاسلامية وهي تتعارض مع الدين الاسلامي ولا تتفق مع احكام القرأن الكريم والشريعة الاسلامية . ان من يبث هذه الدعاية ويرسخ هذا المفهوم هم حكام بعض الامارات والدول الاسلامية ممن لا يريدون ان ينازعهم احد على السلطة لانهم يرون في انفسهم أولي الامر وظل الله على ارضه وبالتالي يجب القبول بهم والاذعان والخضوع اليهم . كما يساهم في ترسيخ مثل هذا الظن في عقول الناس بعض رجال الدين المدفوعين من قبل هؤلاء الحكام والمنتفعين منهم . ان هذا المفهوم خاطيء جدا , ولو عدنا الى عصر صدر الدعوة الاسلامية لوجدنا بان الكثير من الممارسات التي حصلت في وقتها حين كان الدين لا يزال غضا وفي بداياته كانت ممارسات ديمقراطية بحتة . ففي غزوة (أحد) كان رأي الرسول (ص) بالاعتصام في المدينة المنورة وعدم الخروج منها , لكنه رضخ في الأخر لرأي الصحابة الذي كان اغلبهم يرون بضرورة الخروج لملاقاة الاعداء . وبعد وفاة النبي (ص) اتفق الجميع على ان طريقة اختيار الحاكم يجب ان تكون من خلال الشورى , ولو درسنا هذا الاسلوب لوجدناه ممارسة ديمقراطية حقيقية . وحين جرى تغيير هذا الاسلوب وتم اللجوء الى الحكم الوراثي اخذت الثورات تندلع في كل مكان وسادت الاضطرابات بالدولة مما يدلل على ان الناس لم تكن لتقبل بهذا الوضع . وفي زمن حكم الامام علي (ع) كان الخليفة يشاور الناس في كل شؤون الدولة وحتى في خوض الحروب التي شارك فيها . كما ان استبداد الحاكم في الدولة الاسلامية وتسلطه لم يكن مقبولا من قبل العامة بدليل قول احد الصحابة للخليفة عمر بن الخطاب (رض) (لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا) .

ان ما تقدم يمثل جوانب ساهمت بها جموع الشعب العراقي بشكل غير مباشر ومن حيث لا تعلم في ان تغيب الديمقراطية عن هذا البلد . ان شعبنا العراقي مقبل هذه الايام على انتخابات جديدة وقد ان الاوان له في ان يقلب كل النقاط التي جاءت اعلاه رأسا على عقب ويتصرف بعكسها من اجل الوصول الى حريته وامنه وازدهاره وتحقيق الديمقراطية المسطرة على الورق لكنها غائبة في الواقع . يجب ان يستعمل شعبنا الوسائل الديمقراطية المتاحة امامه في اختيار من هو افضل لان يحكمه . كما يجب ان لا يؤيد شعبنا او يدعم اي ممارسة غير شرعية للوصول الى السلطة سواء كان ذلك من خلال تزوير النتائج او في القيام بممارسات غير قانونية وصولا الى هذه الغاية . كما يجب ان لا تقوم اي فئة او شريحة من شعبنا في تفضيل مصلحتها الضيقة الخاصة على حساب المصلحة الوطنية العامة وتدعم او تنتخب من يعود الى فئتها حتى وان كان فاسدا او خائنا او غير مخلصا . ان هذا امر خطير جدا لانه في الاخر سيدمر البلاد وينشر الخراب ولا يعود بالنفع لا الى تلك الفئة التي انتخبته ولا الى بقية فئات الشعب . كما يجب ان يشترك الجميع بالأنتخابات ولا يستمعوا الى اي صوت يمنعهم من المشاركة فيها لان الخنوع والخضوع للترهيب المعاكس سيكلف الشعب العراقي ثمنا اكبر واعلى بكثير من اي خسارة سيتكبدها نتيجة لخوض عملية الانتخاب . وأخيرا يجب ان تتوحد كلمة ابناء شعبنا على اختيار المخلص والنزيه والافضل لكي يستلم دفة ادارة البلاد في المرحلة القادمة ويعبر بهذا البلد الجريح الى بر الامان ويجعل الشعب يتنعم بثرواته التي انعم الله بها عليه والوصول الى مستقبل تشرق فيه الشمس من جديد على عراقنا العربي الحر الابي . ليس من الصعب على اي مواطن حر شريف ومن خلال تجارب السنوات الماضية في ان يشخص ويتوصل الى من هو الافضل والانزه والاخلص لهذا الوطن .

وسام الشالجي
كاتب وباحث