اخر المواضيع في المدونة

الثلاثاء، 11 فبراير 2014

لماذا لم يندمج عراقيو الخارج مع مجتمعات الهجرة

بقلم
وسام الشالجي – كاتب وباحث


ان هجرة الناس من بلد لأخر هي امر طبيعي يحدث باستمرار لمختلف الاسباب وفي كل الازمان . ووفق نفس هذه السلوكية فأن العراقيين وعلى مدى تاريخهم كانوا يهاجرون الى الخارج بشكل طبيعي , لكن هذه الهجرة ظلت قليلة وغير محسوس بها الا في المدة الاخيرة . فمنذ حوالي ثلاثة عقود تقريبا ولحد الان تدفقت على الكثير من دول العالم , وبالذات الى دول الغرب في اوربا والولايات المتحدة موجات بشرية كبيرة من العراقيين المهاجرين الى الخارج معظمهم من الفارين من بلدهم لمختلف الاسباب . ان عدد العراقيين الذين هاجروا الى الخارج قد وصل خلال تلك المدة الى ما يزيد عن اربعة ملايين فرد , ثلاثة ارباعهم ممن هاجروا بعد سقوط النظام السابق عام 2003 . وقد وصلت اعداد بعض العراقيين في بعض البلدان الى ارقام كبيرة حتى اصبحوا الجالية الثانية او الثالثة في البلد بعد ابناء البلد الاصليين , كما هو الحال في السويد وهولندا على سبيل المثال . ولو جرى دراسة حالة اللاجئين في البلدان التي هاجر اليها العراقيين سيكتشف بأن من بين كل الجاليات المختلفة التي تعيش فيها فان المهاجرين العراقيين لم يندمجوا مع مجتمعات تلك البلدان الا بمستوى ضئيل بالرغم من مضي فترات طويلة على اقامة بعضهم فيها . ويثير عدم الاندماج هذا قلق الحكومات والمجتمعات الغربية بسبب المخاطر الأمنية وارتفاع نسبة الجرائم بين المهاجرين , وحتى الأرتماء في أحضان القوى الأرهابية التي تستغل حالة اليأس والشلل التي تصيب هذه الفئات . وتظهر حالات عدم الاندماج مع مجتمعات المهجر من خلال مشاهد عديدة , اهمها :

1- عدم تعلم لغات البلدان التي يقيمون فيها : ان الكثير من العراقيين , وبالذات من ذوي الاعمار الكبيرة ممن تجاوزوا الاربعين , لم يتعلموا لغات البلدان التي هاجروا اليها الا بمستوى صغير يكاد يكون ضحل وبقدر لا يتجاوز احتياجات تمشية الحياة اليومية .
2- التقوقع الاجتماعي : ظلت العلاقات بين العراقيين ومواطني الدول التي هاجروا اليها شبه معدومة وبقيت محصورة تقريبا مع ابناء جلدتهم فقط . ومما أفرزته هذه الحالة ان العراقيين اخذوا يحرصون على السكن بالقرب من بعضهم البعض وشكلوا مستوطنات صغيرة تعج بهم وخلقوا ظروف انعزالية واخذوا يعيشون حياتهم اليومية وكأنهم يعيشون في العراق .
3- الاعتماد الكلي على المساعدات المقدمة : حصل العراقيين بعد وصولهم الى دول المهجر على مساعدات تقدمها تلك الحكومات لتعينهم في حياتهم الجديدة . لقد اعتمد العراقيون على تلك المساعدات بشكل كلي واصبحت جزء من حياتهم ويحرصون على تجديدها باستمرار . بل ان بعضهم اصبح خبيرا في طرق الالتفاف على القانون لكسب اقصى ما يمكن من تلك المساعدات والحصول عليها حتى مع عدم استحقاقهم لها .
4- قلة الانخراط بسوق العمل : ظل معظم العراقيين المهاجرين غير منخرطين في سوق العمل في البلدان التي استقروا فيها وبقوا معتمدين بالدرجة الاساس على المساعدات والتسهيلات التي تقدمها حكومات تلك الدول .
5- الجهل بالقوانين والأنظمة المحلية : بالرغم من بقائهم لفترات طويلة في البلدان التي يقيمون بها نجد ان العراقيين ظلوا يجهلون اغلب القوانين والانظمة المطبقة في تلك البلدان ولا يعرفون منها الا فقرات صغيرة .
6- التقوقع الديني : بالرغم من تسامح الدين الاسلامي وتصديقه لبقية الديانات السماوية واحترامه لعقائدها ومعتنقيها نجد ان العراقيين المهاجرين قد نمت في نفوسهم ظواهر التعصب الديني والتشدد واصبحوا يميلون الى الانعزال عن بقية مواطني الدول التي يقيمون بها لأنهم يدينون بديانات مختلفة . كما ان العراقي اصبح يقضي جل وقته وهو في صراع , هل ان ما يأكله حلال ام حرام ؟ او يتسائل هل ان ما يفعله جائز من جهة الدين ام لا ؟

ان هذا الحال جعل العراقيين يعيشون كالغرباء في البلدان التي هاجروا اليها غير عارفين بطبائع وعادات الشعوب التي يعيشون معها ولا تربطهم بهم اية روابط أو علاقات ويعيشون كجالية متقوقعة على نفسها . وفي الوقت الذي نرى العراقي يجهل كل شيء عن المجتمع الذي يعيش فيه نجده في نفس الوقت يعرف كل صغيرة وكبيرة عن العراقيين الذين يعيشون الى جانبه , وقد تصل المعرفة الى حد انه يعرف حتى ماذا أفطر جاره العراقي وماذا تغدى وماذا تعشى . كما ان الدول المضيفة اخذت تواجه حالات وظواهر لم تعهدها من قبل أتية بالذات من الجاليات العراقية التي دخلت على مجتمعاتهم وتصرفاتها التي هي غريبة عنها ولا تتنسجم مع ثقافاتها .

ان جزء كبير من مشاكل العراقيين المهاجرين في الخارج يعود اصلها الى طبيعة المجتمع العراقي والبيئة التي هاجروا منها , وكذلك الى صفات وخصائص الشخصية العراقية التي يحملونها . وفي الفقرات القادمة سيجري دراسة الأسباب التي جعلت العراقيين لا يندمجون مع المجتمعات التي اصبحوا جزء منها , وتحليل الظواهر التي تتعلق بهذا الموضوع . ان تدارس هذه المشاكل وبحثها مع وجود فهم مسبق لمسبباتها سيكون مفيدا للضيف المهاجر والدولة المضيفة على حد سواء . فمن جانب هو سيساعد العراقيين المهاجرين على تجاوز المشاكل التي تواجههم , او على الاقل التخفيف من اثارها السلبية . ومن جانب اخر فهو يمكن ان يساعد حكومات الدول المضيفة على فهم هذه الجالية المهاجرة والتي اصبحت جزء من مجتمعاتهم ومعرفة اسباب هجرتها وكيفية التعامل معها , خصوصا وانها تعرضت الى الكثير من المتاعب والاحوال الغير طبيعية مما وضعها في ظروف قاهرة وامام خيارات صعبة .

تعود تصرفات اي جالية مهاجرة اجبرتها الظروف الى النزوح من بلدها الى دولة اخرى بالدرجة الاساسية الى طبيعة هذه الجالية فيما اذا كانت جالية مستقرة وذات ديمومة في المكان الذي وصلت اليه , أو انها جالية تحمل صفة البقاء المؤقت وتفكر بالعودة الى مناشئها طال الوقت ام قصر . فعلى سبيل المثال , حين تم اكتشاف قارة اميركا فان موجات المهاجرين الاولى التي وصلت اليها والتي تدفقت من مختلف بلدان اوربا كانت قد قطعت تذكرة باتجاه واحد ولم تفكر بالعودة الى اوطانها الاصلية في يوم من الايام . وكانت اصول تلك الموجات البشرية المهاجرة أتية من بلدان متعددة وتتكلم بلغات مختلفة وتحمل ثقافات متباينة ولديها طبائع غير متشابهة . وحين جرى تأسيس المستوطنات السكانية الاولى في اراضي العالم الجديد من قبل تلك الجاليات المهاجرة لم تفكر اي جالية منها بان تتقوقع على نفسها وتنعزل عن بقية الجاليات , بل اخذت تتاجر فيما بينها وتؤسس الروابط وتبني العلاقات مع بعضها البعض وتتبادل المعلومات والخبرات خصوصا فيما يتعلق بالارض التي استوطنتها بما يعود بالفائدة عليهم جميعا . لذلك يمكن القول بان هذه الجاليات ذات الاصول والثقافات واللغات والطبائع المختلفة انصهرت بالنهاية فيما بينها واسست المجتمع الامريكي كما نعرفه اليوم . لا يعني هذا ابدا بان ذلك قد ازال الصفات الخاصة التي تتمتع بها كل جالية , بل ان الكثير من تلك الخواص ظلت موجودة وتمارس بفخر واعتزاز وتحترم من قبل الجميع . ان هذا الوضع لم يأتي من فراغ او عبث , بل جاء نتيجة لحرص القادمين الى تلك الارض لأن يتجاوزوا عوامل الاختلاف الموجودة بينهم ويحولونها الى عوامل ربط بدل ان تكون عوامل تفرقة . يمكن القول بان اسباب الانصهار لتكوين مجتمع واحد ترجع بالدرجة الاساس الى ان المهاجرين كانوا قادمين برغبة وناوين على البقاء بشكل دائمي ومستمر , وان الاغتراب دفعهم الى التعاون مع بعضهم البعض لدحر الصعوبات والتحديات التي تواجههم في بيئتهم الجديدة .

ولو تدارسنا وفق هذا المنطلق نوعية الشرائح العراقية التي هاجرت الى بلدان اخرى , فعلينا ان نقسمهم الى قسمين , هما :

1- الموجات التي هاجرت الى الخارج قبل عام 1980 : ان العراقين الذين هاجروا الى الخارج قبل عام 1980 كان معظمهم من المسيحيين الذين خططوا طويلا للنزوح الى دول الغرب وهاجروا هجرات منظمة ومرتبة . وكان السبب وراء هجرة هؤلاء هو انهم كانوا يشعرون بشكل او بأخر بانهم ولدوا في المكان الخطأ بسبب وجودهم في العراق كأقلية دينية وان عليهم تصحيح هذه الخطأ والنزوح الى بلدان تدين بالديانة المسيحية . كانت هذه الهجرات هي هجرات نهائية ولم يحصل الا نادرا أن عاد بعض من هاجر منهم الى العراق مرة ثانية , وحتى في الحالات القليلة التي حصلت فان العائدين أكتشفوا بانهم تغيروا كثيرا ولم يعودوا قادرين على العيش مع مجتمعهم القديم مرة اخرى فهاجروا من جديد . كما ان علينا ان نقر بان المهاجرين من هذه الفئة كانوا راغبين ومستعدين لان يتغيروا كليا وان يتركوا خلفهم كل ما عاشوا فيه وان يصطبغوا الى اقصى درجة ممكنة بصبغات الدول التي استقروا فيها . لذلك , فان هؤلاء خلعوا عنهم تقريبا معظم صفات المجتمع الذي أتوا منه واندمجوا كليا مع مجتمعاتهم الجديدة وتعلموا بسرعة لغاتها , حتى ان ابناء الجيل الثاني منهم اصبحوا مواطنين يصعب التمييز بينهم وبين مواطني البلد الاصليين . ان هذا لا يعني ابدا بأن العراقيين من هذه الفئات تنكروا لمجتمعاتهم الأصلية او تخلوا عن وطنيتهم او نسوا ثقافاتهم , بل اننا نجدهم باستمرار , خصوصا ابناء الجيل الاول منهم يعاودون من فترة لأخرى الى عقد لقاءات تجمعهم حيث يلبسون ملابسهم التراثية ويمارسون عاداتهم القديمة ويتغنون بأرثهم الثقافي والفني ويتبادلون الاحاديث بلغاتهم الاصلية .
2- الموجات التي هاجرت الى الخارج بعد عام 1980 : ان النسبة العظمى من المهاجرين في هذه المرحلة وما بعدها كانوا من المسلمين الذين اضطرتهم للهجرة الظروف والاسباب السياسية والطائفية والدينية . كما كان ضمن هذه الموجة ايضا بعض المسيحيين الذين تعرضوا للاضطهاد الديني مع غيرهم من الأقليات الدينية بسبب المد التكفيري الذي ارتفعت مستوياته بالعراق بعد عام 2003 . ان الغالبية العظمى من الموجات المهاجرة من هذه الفئة هاجرت اضطراريا وبسرعة وبدون تخطيط مسبق , ولم تحمل في قرارة نفسها ابدا صفة النزوح النهائي والاستقرار في الوطن الجديد بل وضعت في حساباتها بان هجرتها هي هجرة مؤقتة وانها ستعود الى الوطن بمجرد ان تتحسن الاحوال فيه . ان هذا الوضع ذو اهمية كبيرة لما فيه من تأثير لانه هو الذي حدد طبيعة تصرفات هؤلاء العراقيين المهاجرين في بلدان المهجر . ان الشعور بان الحياة الجديدة هي حياة مؤقتة طال الزمن او قصر يجعل من المهاجر غير راغب بجدية لأن يندمج في مجتمعه الجديد ولا تعلم لغة البلد الذي نزح اليه , ولا مهتم بمعرفة صفات هذا المجتمع وخصائصه وطبائع افراده طالما انه يشعر بان مدة بقائه فيه محدودة وسيتركه في أخر المطاف . اما بالنسبة للعمل فان المهاجر من هذا النوع لا يتحمس ايضا للأنخراط بالعمل لأن هذا سيجعله يحتاج الى تعلم اللغة ومعادلة الشهادات والاندماج بعض الشيء في المجتمع وهو غير راغب بهذا اصلا , لذلك فانه يبقى يبحث عن اي منفذ يعفيه من هذا الامر والذي عادة ما يكون البقاء معتمدا على المساعدات التي تقدمها حكومات الدول المضيفة . اما اذا اضطر للعمل لسبب او لأخر فانه لا يرمي بثقله كله بهذا الميدان أبدا ويرضى ويكتفي باية وظيفة او عمل بمجرد انها تسد حاجته . كما اننا غالبا ما نجده في مثل هذه الحالة يبحث عن العمل الذي لا يحتاج الى تعلم لغة ولا الى خبرات تخصصية , لذلك نجد الكثير من العراقيين الذي هاجروا من ضمن هذه الفئة عملوا باعمال متدنية بالرغم من ان الكثير منهم يحملون شهادت مرموقة وكانوا متخصصين في مهن معينة ، أو كانت لديهم وظائف رفيعة فقدوها فجأة . من ناحية اخرى , فان المهاجر الذي على هذه الشاكلة يكون حريصا على الاستفادة من كل المساعدات الممنوحة والتسهيلات المتاحة ويبحث عنها باجتهاد لكي تساعده في تخفيف اعباء الحياة , خصوصا اذا كانت هذه المساعدات يمكن ان تعفيه من العمل . وحتى الجيل الثاني من هذه الفئة فأنه لم يندمج بالمجتمع الجديد الا بشكل محدود لانه ظل محددا ومتاثرا بما فرضه عليه الجيل الاول الذي ظل يصبوا نحو العودة الى الوطن الام .

النوع الاول من المهاجرين العراقيين لم يواجه مشاكل كثيرة وكبيرة واستطاع ان يتاقلم في ظروف حياته الجديدة بسرعة وسهولة ويتغلب على كل الصعاب التي واجهته , واصبح بعد مدة ليست بطويلة جزء من المجتمعات التي سكن فيها . اما النوع الثاني , والذي يعنينا بهذا البحث فقد عاش ويعيش بصورة مستمرة بازمة كبيرة في موطنه الجديد وواجه مشاكل وصعوبات كثيرة . وكما قلنا سابقا , فقد هاجر معظم العراقيين من هذا النوع الى الخارج دون تخطيط واعداد مسبق وبسبب مستجدات فجائية حصلت في حياتهم وظروف استثنائية لم يحسبوا حسابها , وقد حملوا معهم صفاتهم واخلاقهم , وكذلك عاداتهم وطبائعهم وجميعها مرتبطة بطبيعة المجتمع الذي تركوه . ومن الطبيعي بان تكون هذه الصفات والطبائع كثيرة جدا ومتشعبة , لكن ما يعنينا هنا هو عدد محدد منها مما كان له اثر وانعكاس على تصرفات العراقيين بعد سفرهم واستقرارهم في دول اخرى , اهمها :

1- حب الوطن والروح الوطنية : يتميز العراقي بانه يحب وطنه الى درجة كبيرة , وان ثلاثة ارباع عقليته وتفكيره هي عقلية وتفكير سياسي . وحتى وان ترك العراقي وطنه لاي سبب كان فانه يبقى مرتبطا به عقليا وروحيا وهو غير مستعد للتفريط بانتمائه اليه ابدا . كما ان العراقي يحب الأمكنة والمناطق التي ترعرع بها بدرحة كبيرة , ولا تتبدل نظرته لبيئته الاصلية مهما كانت متأخرة وحتى لو وضع في افضل واجمل مناطق العالم .
2- العصبية : الانسان العراقي متعصب بشكل فطري للفئة التي ينتمي اليها . والعصبية الموجودة لدى العراقي يمكن ان تكون للقبيلة , العشيرة , الدين , الطائفة , او العرق . وبسبب هذه العصبية فأن العراقي يميل بشكل طبيعي الى الاصطفاف والتخندق مع الفصيل او الفئة التي ينتمي اليها , على حق كانت ام على باطل . وقد تجذرت العصبية لدى العراقيين على مدى تاريخهم واصبحت تمارس في كل لحظة وفي كل يوم وفي كل مفردة من مفردات الحياة حتى صارت صفة ثابتة من صفاتهم .
3- التدين : التدين صفة اساسية اخرى من صفات العراقي وبالذات العراقي المسلم , ويمكن القول بان نصف مفردات الحياة اليومية للعراقي تتعلق بشكل او بأخر بأمور دينية . ويحرص العراقيون على اقامة الشعائر والطقوس الدينية الاسلامية وتطبيق الاحكام الدينية على جميع تفاصيل حياتهم والخضوع بصورة تامة وبطريقة لا ارادية الى توجيهات رجال الدين او القائمين عليه .
4- التمسك بالعادات والقيم السائدة : العراقيون هم من اكثر الاقوام البشرية تمسكا بالقيم والمباديء والعادات السائدة في مجتمعهم . ان منبع القيم والعادات والاعراف في المجتمع العراقي يعود الى عدة مناشيء منها تاريخية وبيئية ومنها دينية ومذهبية . ولكون المجتمع العراقي هو مجتمع فئوي (عشائري وطائفي وعرقي) , فان لكل فئة من هذه الفئات قيمها وعاداتها الخاصة التي تلتصق بها ويلتزم بها من قبل الجميع حتى تصبح صفات متوارثة اب عن جد وجيل عن جيل يلتزمون بها بشكل فطري ولا يفكرون ابدا في الخروج عليها .
5- الطائفية : ينقسم العراقيون بصورة رئيسية الى طائفتين مذهبيتين هما الشيعة والسنة . ومع ان هاتين الطائفتين هما لمذهبين اسلاميين الا انهما تختلفان في الكثير من المعتقدات والاحكام والممارسات والطقوس الدينية . ومما لا شك فيه ان مظاهر الاختلاف بين هاتان الطائفتان خلقت بينهما نوع من التضادد والعداء الخفي يظهر بطرق مختلفة من بينها الهيمنة على الأوضاع الداخلية والتحالف مع القوى الخارجية والمبالغة في اقامة الطقوس والشعائر الدينية . ومع ان حالات الاختلاف هذه لم تصل الى درجة الاحتراب بالماضي بين الطائفتين , الا ان المستجدات التي دخلت على المجتمع العراقي خلال العقود الاخيرة جعلته مجتمع طائفي واصبحت الاوضاع فيه متأزمة باستمرار حتى وصلت الى حد الانفجار كما حصل في الاعوام 2006 – 2008 ويمكن ان يحصل من جديد في اي وقت , وكل من يتجاهل هذه الحقيقة فهو يخادع نفسه قبل ان يخادع الاخرين .
6- قلة الاندفاع في العمل : يعتبر العراقي بصورة عامة شخص قليل الانتاجية وغير مندفع للعمل , وقد اظهرت الاحصائيات الدولية على ان مستوى انتاجية العراقي قياسا بالمستويات العالمية تقع في نهاية السلم تقريبا . ويحب العراقي التمتع بالعطل والاجازات لاقصى درجة ممكنة , وحين يعمل فانه يقوم بتمشية يومه باي طريقة من الطرق . وبالمقابل فان العراقي في نفس الوقت يحب كثيرا الامتيازات والرواتب العالية ويحرص على الحصول على المكافئات او اي فوائد يمكن ان يحصل عليها . وفي مثل هذه الظروف نجد ان غالبية العراقيين يميلون للتوظف لدى الحكومة وعدم الاشتغال بالقطاع الخاص لان رواتبهم ستكون ماشية عملوا ام لم يعملوا .
حمل العراقيين الذين هاجروا بعد عام 1980 هذه الصفات والخصائص معهم في شنط سفرهم , وقد ظلت ملازمة لهم حتى بعد مضي سنين طويلة على هجرتهم . وبهذه الصفات والخواص التي يحملونها اصبح العراقيين يعيشون في ظل مجموعة ازمات تركت اثارها عليهم وجعلتهم في وضع صعب وحرج للغاية . ويمكن حصر ازمات العراقيين المهاجرين من الفئة التي هي مدار البحث بما يلي :

1- ازمات نفسية : ان اندلاع الحروب في العراق بعد عام 1980 أدى الى تدهور احوال البلاد ووقوع الخراب في كل شيء وخلق ظروف نفسية صعبة لدى جميع العراقيين . ومما زاد في سوء الاحوال أن هذه الحروب سببت حصول هجرات الى الخارج حدث معظمها نتيجة لاسباب قسرية اما فرارا من تلك الحروب او كنتيجة لها . ان هذ الاحوال جعلت من الذين اجبرتهم الظروف الى مغادرة البلد في اوضاع نفسية سيئة للغاية . وحتى بعد استقرارهم في دول المهجر فان معاناة هؤلاء بسبب تلك الظروف جعلت احوالهم النفسية تتردى اكثر وتتفاقم بسبب المحن التي قاسوا منها في الماضي وويلات الحروب التي فروا منها والتي كانت واقع قائم وحاضر وماثل أمامهم باستمرار , اضافة الى ظروف الاغتراب الذي اصبحوا فيه . ان ألاف العراقيين الموجودين في دول اوربا واميركا يعانون من أمراض نفسية ويعيشون بظل الكوابيس المتكررة , ولا يتلقى العلاج منهم سوى نسبة صغيرة نظرا لمحدودية موارد برامج الرعاية الصحية المتاحة لهم . ان هذه الامراض النفسية تركت اثارها على تصرفات الجاليات العراقية المهاجرة مما جعلها جالية منطوية على نفسها تجتر امراضها ومحنها دون ان تستطيع ان تنتزع نفسها من ألام الماضي وتعيش في حياتها الجديدة بصورة طبيعية .
2- الازمة الاقتصادية : كانت نسبة كثيرة من المهاجرين العراقيين الذين اضطرتهم الظروف الى الهجرة الى الخارج بعد عام 1980 في احوال مالية جيدة واوضاع اقتصادية ممتازة . وفي ليلة وضحاها وجد هؤلاء انفسهم مضطرين لمغادرة البلد فجأة ودون تخطيط واعداد مسبق . لقد ترك معظم هؤلاء خلفهم املاكهم وثرواتهم وغادروا فقط بشنطة ايديهم , وفي بعض الاحيان بمجرد الملابس التي على جلودهم . لقد سافر هؤلاء وهم لا يعرفون ماذا سيحل بممتلكاتهم وكيف سيكون مصيرها وبأي ايدي ستقع . وفي دول المهجر وجد هؤلاء انفسهم مضطرين لأن يعيشوا على مدخولات صغيرة مما توفره لهم دول اللجوء بينما كانوا متعودين في الماضي على العيش بحالة ميسورة . وبعد 2003 واجهت الموجات المهاجرة اوضاع الكساد الاقتصادي الذي حل بدول العالم وقلة فرص العمل اللائق مما جعلهم في اوضاع مالية سيئة للغاية وزاد من حدة المحن النفسية التي يعيشون بها . لهذا فان من غير المنتظر ان يصبح الاشخاص الذين هم بمثل هذه الاحوال مقبلين على الحياة في دول المهجر وراغبين بالبقاء والاندماج في المجتمعات التي أوتهم , بل بالعكس فان من الطبيعي جدا ان نجدهم يتطلعون الى العودة الى بلدهم الاصلي بأقرب فرصة للأستفادة من اموالهم , او على الاقل تصفيتها بالطريقة التي تلائمهم .
3- الازمة الاجتماعية : ان العرب بصورة عامة , والعراقيين بصورة خاصة يعيشون في ظل ظروف اجتماعية وعادات تنبع من اصولهم العرقية وبيئتهم التي عاشوا بها وهم معتادين عليها ومتأقلمين معها . وحين انتقل بعض هؤلاء الى دول الغرب وجدوا انفسهم فجأة يعيشون ضمن مجتمعات تختلف كليا بعاداتها وتقاليدها عنهم . ان المشكلة تكمن في ان الكثير من عادات العراقيين وتقاليدهم تتقاطع مع عادات وتقاليد المجتمعات الغربية التي انتقلوا اليها , خصوصا فيما يتعلق بالاختلاط بين الجنسين . لقد سببت هذه الاوضاع مشاكل كثيرة للعراقيين ووضعتهم في عض الاحيان امام طائلة المحاسبة القانونية حين لم يسكتوا على تصرفات بناتهم واخواتهم . كما ان هذه الاحوال خلقت المشاكل ايضا بين الجيل الاول والجيل الثاني لان الاولاد والبنات الذين نشأوا في مجتمع المهجر لم يستسيغوا فرض القيود والمحددات التي فرضها عليهم ابائهم . لقد وضعت هذه المحن الكثير من العراقيين باوضاع صعبة ونغصت عليهم حياتهم وجعلتهم يفكرون جديا بالعودة الى العراق , او الى اي مجتمع عربي لانهم لم يستطيعوا ان يتأقلموا مع الظروف الاجتماعية السائدة في بلدان الغرب والتي لا قدرة لهم على تغييرها .
4- أزمة الوطنية : لقد بينا سابقا بان الفئات المهاجرة من العراقيين بعد عام 1980 قد هاجرت معظمها لأسباب قاهرة وقسرية . لقد كان هؤلاء المهاجرين مرتبطين ببلدهم الام بقوة لاسباب ترجع اغلبها الى نواحي سياسية . وحين التجأ هؤلاء الى دول الغرب لم تنفصم علاقاتهم بالوطن بل ظل بعضهم يزاول نشاطه السياسي القديم ويتطلع الى تغيير الاوضاع هناك والعودة مرة اخرى . ان النشاط السياسي الذي يخص بلد الانحدار يجعل الناشط بشكل طبيعي لا يشعر بالانتماء الى بلد الاقامة ولا يرتبط به بأي رابطة . من جهة اخرى فان انخراط الابناء بالمدارس في دول المهجر ودراستهم لمناهجها الدراسية ومن بينها دروس التربية الوطنية التي تحاول زرع شعور حب البلد الذي يعيشون فيه , وكذلك ترديدهم مع بقية الطلبة لشعارات حب الوطن واداء مراسيم تحية العلم كل صباح كان يغضب بعض الاباء ويجعلهم ينهون ابنائهم عن مثل هذه الممارسات . وبالمقابل كان هؤلاء الاباء يزرعون في عقول اولادهم بانهم غرباء لا ينتمون لهذا الوطن وان وجودهم فيه هو وجود مؤقت سينتهي في يوم من الايام بالعودة الى الوطن الام . ان من الطبيعي ان تولد هذه الممارسات حالة شديدة من الصراع داخل نفوس الجيل الثاني ويكبرون وهم يعيشون بظل ازدواجية قاسية بين حب وطن لم يروه بحياتهم وبين نكران فضل وطن فتحوا عيونهم فيه وعاشوا بين ابنائه وأكلوا من خيراته . ان الاباء لا يدركون بانهم بهذه التصرفات فانهم يدمرون حياة ابنائهم تماما ويخلقون جيلا ضائعا سيضيع المشيتين , فهو لن يشعر ابدا بالولاء للبلد الاصلي الذي لم يروه في حياتهم , وفي نفس الوقت ينشأون غير موالين للبلد الذي يعيشون فيه فعلا بسبب ما زرعه فيهم ابائهم .
5- الازمة الدينية : علينا ان لا ننكر بان ديننا الاسلامي وبالرغم من افكاره ومبادئه المتسامحة وتصديقه واعترافه بجميع الاديان السماوية , الا انه في بعض مراحل الدعوة الاسلامية نزلت بعض الايات القرأنية التي تعادي هؤلاء وتدعوا الى محاربتهم . ان المسلم المعتدل والمتعقل يستطيع ان يدرك بسهولة ان هذه الايات القرأنية كانت محكومة في وقتها بظروف الدعوة الاسلامية وكان الغرض منها اظهار الدين وتثبيت قواعده واركانه . وبعد ان ثبتت الدعوة وانتشر دين الله في الارض اصبح العقل يدعوا الى العودة الى الافكار والمبادي السمحة التي ظهرت بالبداية . وحين هاجر العراقيون الى الخارج وجدوا انفسهم مضيفين من قبل مجتمعات لا تدين بدينهم بل تدين بدين أخر هو الديانة المسيحية . وفي ظل مثل هذه الظروف كان حري على العراقيين ان يمتثلوا لأحكام التسامح الموجودة في الدين الاسلامي واعترافه بالاديان السماوية الاخرى لكي يعيشوا بامان في مجتمعاتهم الجديدة الى جانب الدين المسيحي , خصوصا وان كل ما جاء في القرأن الكريم يعتبر صحيح ويمكن الامتثال له دون حرج . غير ان البعض من العراقيين وللأسف اخذ من الدين ما لا ينسجم مع الظروف الجديدة وتحولوا الى متشددين ومتعصبين يبثون افكار عدائية بين معيتهم وفي اوساطهم تجاه المحيط الذي يتواجدون فيه . ان هذه الحالة خلقت أجواء سلبية خطيرة وحولت الجالية المهاجرة الى عنصر خطر على المجتمع الذي تعيش فيه وزادت من تقوقعها وانعزالها . ان اقل ما يمكن قوله عن مثل هذه التصرفات هي انها مواقف لا تنسجم مع اخلاقياتنا الحميدة ولا تليق بما يفترض ان يقوم به هؤلاء من رد للجميل تجاه المجتمع الذي أواهم واحتضنهم وساعدهم في اصعب اوقات حياتهم .
6- التقولب وعدم القدرة على التغير : مما لا شك فيه ان مجتمعات دول الغرب هي اكثر تطورا من مجتمعاتنا الشرقية سواء بالعادات وبطرق العيش وفي استخدام التقنيات الحديثة بكل وسائل الحياة . وحين وصل العراقي الى تلك المجتمعات شعر بالفارق الكبير بين الطريقة التي دأب على العيش بها وبين ما وجده في هذه المجتمعات . لقد كان من المنتظر ان يتغير هذا العراقي ويتطور ليواكب المجتمع الذي اصبح فيه . غير ان هذا العراقي ظل محددا بعاداته ومعارفه القديمة وغير راغب بتعلم الجديد . كانت نتيجة هذا ان العراقي اصبح يعيش في واد والمجتمع الذي حوله في واد اخر مما ادى الى حصول انفصام بين الضيف المهاجر والمجتمع الذي استضافه .
7- التطلع المستمر للعودة الى الوطن : كانت الموجات الاولى من المهاجرين العراقيين بعد عام 1980 جلها من الشيعة الذين هجرتهم الحكومة بدعوى التبعية الايرانية , او من الذين كانوا يعادون النظام الحاكم وهاجروا من نفسهم الى الخارج هربا من بطش النظام . اما بعد 2003 فان معظم المهاجرين كانوا من السنة الذين فروا من عمليات التصفية التي طالتهم اثر اندلاع المواجهة بين الطائفتين في الاعوام 2006 – 2008 وكذلك عمليات التهجير القسري بسبب عمليات التطهير العرقي . وأثر تغيير النظام الذي حصل عام 2003 عاد 90% من مهاجري الموجات الاولى الى العراق , وبعد مدة قصيرة فاز هؤلاء بالحكم والسلطة وورثوا ثروات البلاد بكل ما فيها وتحول الكثير منهم الى اغنياء بشكل فاحش بعد عشرات السنين من الغربة والقهر والفاقة . ان هذه الحالة جعلت مهاجري الموجات التالية يتطلعون الى نفس هذا المصير , ونما عندهم الاعتقاد بانهم سيعودون في يوم من الايام الى الوطن مرة اخرى ويكسبون الحكم ايضا ليتنعموا بكل فوائده وامتيازاته . لهذا فان من الطبيعي ان نجد هؤلاء المهاجرين غير مندفعين الى الاستقرار والتوطن في البلدان التي أنتهى مصيرهم فيها .

جعلت هذه الازمات العراقيين المهاجرين يعيشون باوضاع صعبة وسببت لهم صدمات كبيرة , وقد اصيب الكثير منهم بحالات من الاكتئاب والانطواء بسببها ، الا انه لم يكن هناك من خيار امامهم يخرجهم من هذا الوضع الذي اصبحوا فيه خصوصا مع تضاؤل فرص عودتهم الي الوطن بسبب استمرار التدهور الامني وعدم استقرار الأوضاع السياسية وبقاء الاحوال التي اضطرتهم الى الهجرة على حالها تقريبا . ولعلاج هذه الاحوال الصعبة والخروج من دوامة هذه الازمات واصلاح الاحوال على العراقي المهاجر ان يتخذ قرارات مصيرية وصعبة في أن واحد . اولا على المهاجر ان يدرس حالته بعناية شديدة ويقرر فيما اذا كان عليه ان يبقى في بلاد المهجر ام يعود للوطن ثانية . فاذا قرر بعد دراسة مستفيضة بان عليه ان يعود فلابد من اتخاذ خطوات منظمة ومدروسة لتنفيذ ذلك . كما يجب ان يكون تنفيذ هذا القرار ضمن وقت معقول وليس في وقت متأخر لان التنفيذ السريع سيكون لمصلحة ابنائه , وان اي تأخرسيزيد من صعوبة اندماج هؤلاء بالمجتمع العراقي بعد عودتهم لأنه سيصبح هو جديدا عليهم هذه المرة . اما اذا قرر العراقي البقاء في بلاد المهجر فلابد له من اجراء تغيير جذري لطبيعة الحياة التي يعيشها وتغيير نمط تفكيره وسلوكياته والاندماج بمجتمعه الجديد والتطبع باخلاقياته وعاداته وطباعه . ان من الاكيد بان هذا لن يكون سهلا , بل ربما سيكون (مرًا) , لكنه في الواقع الخيار الوحيد المتاح امامه للخروج من ازماته لان من المستحيل ان يتوقع بان هذا المجتمع يمكن ان يصبح مثلما يريد في يوم من الايام حتى لو بقى فيه مئات السنين .

نشرت هذه الدراسة بحلقتين في جريدة الزمان على الروابط التالية :

الحلقة الاولى
http://www.azzaman.com/?p=61266
 

الحلقة الثانية
http://www.azzaman.com/?p=61416