اخر المواضيع في المدونة

الاثنين، 8 يوليو 2013

تدمير التراث الثقافي العربي , هل هو مؤامرة ؟ - (3)

(3) 

1-    الحصار الاقتصادي على العراق :
بعد توقف حرب الخليج الثانية فرضت الامم المتحدة نظام مراقبة صارم على العراق لنزع اسلحة الدمار الشامل منه وشددت الحصار الاقتصادي عليه لمنعه من استئناف اي عملية تطوير جديدة او تسليح لقواته . فبالرغم من الدمار الكبير الذي لحق بالبلد اثر تلك الحرب فان حملات اعادة الاعمار استطاعت اعادة بناء الكثير من المؤسسات والمرافق العامة , واستطاعت الدولة استئناف الكثير من الخدمات التي دمرت مرافقها مثل الكهرباء والماء الصالح للشرب في فترات قياسية . اخطأت القوى الأجنبية مرة اخرى في حساباتهم وصمد نظام صدام حسين ولم يسقط كما كان متوقعا . كما ان اعادة الاعمار وسلامة الكثير من المؤسسات العلمية والثقافية في العراق من التدمير دفع القوى التي اصبحت تستطيع فرض ارادتها على العراق نحو البدأ بتنفيذ مخطط جديد سيكون قاضيا هذه المرة . كان المخطط الذي اعد يتضمن القيام باجراء تفتيش صارم على كافة المؤسسات العلمية والعسكرية العراقية لتفكيكها وتدمير اي نوع من الاسلحة الغير تقليدية التي يمتلكها العراق . وبعد اكمال كل هذا وجعل البلد خاويا من كل مراكز القوة يمكن عندها مواصلة الخطوة الاخيرة التي تتضمن اخر صفحة من صفحات الحرب السابقة عن طريق التقدم الى بغداد واسقاط النظام واحتلال البلد . وبعد حصول هذا يمكن توجيه الامور لكي تأخذ مسار مدروس يشمل القضاء على كل القواعد العلمية والثقافية بالبلد وتحطيم وتدمير ونهب كل ارثه الثقافي والعلمي , وهذا ما تم بالفعل . 

وخلال سنوات الحصار الاقتصادي التي استمرت قرابة الثلاثة عشر سنة شلت الدولة تقريبا واخذت تأكل نفسها بنفسها .  فبالإضافة إلى الأضرار الجسيمة التي لحقت بثروة العراق من الآثار التاريخية جراء عمليات النهب المتوالية التي اخذت تتعرض لها في ظل عجز الحكومة العراقية عن توفير حماية أمنية لها بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي السائدة في البلاد طيلة مدة الحصار ، فإن العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق طوال تلك الفترة أدت إلى الحد من قدرة الحكومة على صيانة وترميم مواقعها الأثرية المهددة بالانهيار والاندثار . ومن أبرز هذه الاثار كانت تحتاج الى صيانة سريعة مدينة آشور الواقعة في قلعة الشرقاط التي كانت العاصمة الأولى لمملكة الآشوريون في الألف الثالث قبل الميلاد , فقد أجبرت الظروف الصعبة السلطات العراقية على إرجاء عمليات ترميم جسر "دلال الآثري " على نهر الخابور في منطقة "زاخو" شمال البلاد . فقد تأجلت عمليات الترميم بسبب الامكانات الفنية عالية التقنية التي تتطلبها والحاجة إلى خبرات خاصة نظرا لضخامة الجسر الذي يبلغ طوله نحو 114 متر ويتجاوز ارتفاعه خمسة عشر متراً ، وجاء قرار الإرجاء على الرغم من تحذيرات علماء الآثار في العراق من أن تأخر البدء في الترميم قد يؤدي إلى انهيار الجسر والذي يعد واحد من اهم المعالم الاثرية البارزة في العراق . كما أدى عجز الحكومة العراقية عن تدبير الموارد المالية اللازمة في ظل ظروف الحصار إلى توقف الجهود الرامية إلى ترميم مجموعة من المواقع الأثرية الإسلامية في البلاد , منها منارة وقبة جامع الخلفاء وملوية جامع سامراء وبعض الآثار الإسلامية في بغداد والبصرة والموصل . ونظرا لهذه الظروف تم إدراج مدينة نينوى العاصمة الآشورية القديمة شمالي العراق في قائمة الحفاظ على الآثار العالمية التي تضم 100 موقع توصف بأنها الأكثر عرضة للخطر في العالم ، وهذا دفع منظمة "اليونسكو" إلى إرسال بعثة أثرية لتفقد المواقع الأثرية المهددة في العراق ، والإعراب عن استعداد المنظمة للمشاركة في حملات لإنقاذ المناطق التى تغمرها المياه فى البلاد لنقلها إلى مواقع أخرى . كما ان عمليات النهب والسرقة لم تتوقف ابدا , ومنها عمليات قامت بها الدولة نفسها من اجل الحصول على مبالغ مالية بالعملة الصعبة . فقد اشيع في الشارع العراقي على سبيل المثال بان عدي صدام حسين هو احد الذين اشاعوا فكرة نبش المواقع الاثارية القديمة وبيعها لسد حاجات الدولة الى العملة الصعبة ابان سنوات الحصار على العراق .

من ناحية اخرى , فقد اصابت قطاع التعليم اضرار جسيمة تمثلت في نفاذ واستهلاك معظم الامكانيات والموارد الفنية والعلمية التي كانت تستعمل في التعليم المدرسي والجامعي والعالي . ومع ان العقلية العراقية اخذت تتفتق عن ابتكارات كبيرة وعظيمة وجهت لسد النقوصات في هذه لامكانيات الا ان ما اصاب التعليم من عجز كان بالغ الضرر . وبسبب الصعوبات الاقتصادية وتدني الدخل فقد تفشت في الدولة بصورة عامة وفي قطاع التعليم بصورة خاصة الرشوة مما اخذ يترك اثار سيئة جدا على مستوى التعليم ورصانة المؤسسات التعليم في العراق . ان تفشي الرشوة بشكل حاد في المجتمع العراقي اثر على كل شيء وافقد الثقة في كل شيء ايضا . وبسبب هذه الحالة اصبح المواطن يحقق اي شيء يريده عن طريق الرشوة بسبب فساد الموظفين والعاملين في قطاعات الدولة . وفي الوقت الذي كان فيه الموظف العراقي مشهودا له بنزاهته وعفته وامانته اصبح لا يبالي ولا يستحي من قبول وحتى طلب الرشوة من اي مراجع لدوائر الحكومية . يمكن القول بصورة مختصرة ان اثار الحصار الاقتصادي على ثقافة وشخصية المواطن العراقي كانت خطيرة للغاية , وان الشروخ التي احدثتها في نفسية الانسان العراقي كانت عميقة جدا , حتى انها ترسخت وتأصلت ولم تزول حتى بعد تحسن الاوضاع الاقتصادية اثر تغير الاوضاع بعد عام 2003 .

اما ما جرى للتراث الفني العراقي خلال هذه الفترة فيمكن ايجازه بما يلي . فبعد ان سدت كل منافذ العراق امام كل شيء مصنع يمكن ان يستورد اضطرت المؤسسات العراقية ومن بينها دار الاذاعة والتلفزيون الى اللجوء الى احتياطياتها المحدودة لسد احتياجاتها من المواد التي تحتاجها في اعمالها . وخلال مدة قصيرة نفذ كل ما في الاذاعة والتلفزيون من بكرات تسجيل وكاسيتات سمعية ومرئية التي تبخرت بسرعة لكون العراق في حالة حرب وتفاعل شديد مع محيطه الخارجي والداخلي بسبب توالي الاحداث الجسام التي تركت اثرها على كل شيء في العراق . لم يجد المسؤولين في هذه المؤسسة بعد هذا النفاذ غير اللجوء الى الخزين المستعمل القديم واستعماله مرة اخرى لتوثيق تلك الاحداث . لقد كان العاملين في الاذاعة والتلفزيون في حالة تحدي مع الظروف والاحداث التي جعلتهم مضطرين على تقديم الاهم على المهم في ظل حالة التوتر الشديد وصراع الذي كان يمر بها البلد . لم يكن الامر لاسبوع او اسبوعين ولا لعدة اشهر لكي يجري تدابر الامور , بل استمر هذا لسنين طوال وصلت في الآخر الى الرقم المشؤوم (13) سنة . في هذه المدة الطويلة مسح كم هائل من محتويات موجودات الاذاعة والتلفزيون العراقية من البكرات والكاسيتات التي كان مسجلا عليها تاريخ بلد كامل بكل احداثه بالاضافة الى كم لا يستهان به من ذاكرة العراق الفنية والثقافية . لم يكن من السهل تعويض ما فقد , لكن العاملين في الاذاعة والتلفزيون كانوا يتصورون بانه اذا ما عادت الامور الى نصابها السابق فانهم سيستطيعون تعويض جزء كبير مما فقد من خلال اللجوء الى ما يملكه الاخرين من مواطنين ودور اذاعة وتلفزيون في دول شقيقة , لكن مثل هذه الفرصة لم تتحقق ابدا وضاع والى الابد كم لا يستهان به من تاريخ وتراث العراق الفني  .

2- حرب الخليج الثالثة :
في بداية عام 2003 اخذت الامور تتصاعد من جديد وحصلت ازمة اخرى اثر اتهام الولايات المتحدة العراق بانه يسعى الى تطوير اسلحة دمار شامل منها اسلحة بايولوجية وكيمياوية وانه بات يمتلك مخزون كبير منها مما يجعله مصدر خطر دولي على جيرانه والدول الاخرى . أخذ الموقف يتصاعد تدريجيا واخذت الولايات المتحدة تعد العدة لغزو العراق من خلال تشكيل تحالف جديد فيه قوى كبيرة مثل بريطانيا وايطاليا وكندا واسبانيا واستراليا وكوريا الجنوبية والكثير من الدول الاخرى . وفي 20 اذار من نفس العام شنت حرب جديدة على العراق لم تستمر لاكثر من ثلاثة اسابيع ادت بالنهاية الى احتلال البلد وسقوط نظام الحكم فيه . وبعد سقوط الدولة وفرار الحكومة وهروب قوات الجيش والشرطة من مواقعهم وترك الدوائر ومؤسسات الدولة والمعسكرات من دون حماية او رقابة حدثت عمليات نهب وسطو وسرقة عدت الاكبر من نوعها على مدار التاريخ .  فقد شهد العراق , وبالذات بعد سقوط بغداد في 9 نيسان عام 2003 على يد قوات التحالف , حملة سرقة ونهب وتدمير بشكل لم يشهده اي بلد في العصر الحديث . فعلى مدى عدة اسابيع تعرض كل شيء حضاري في العراق الى التدمير والنهب والسرقة . وكان نصيب العاصمة بغداد في هذه الحملة هو الاكبر وكأن هناك قوى كانت تنتظر مثل هذه الفرصة للثأر من هذه المدينة العريقة . كانت هناك حملات منظمة يجري فيها احتلال مبانى ومنشأت المؤسسات الحكومية ومعسكرات الجيش والبنوك والمصارف والمعامل والمصانع وغيرها , حيث يجري أفراغ كل محتوياتها وتحميلها في شاحنات ضخمة تجلب لهذا الغرض . وبعد ان يتم تفريغ كل شيء يمكن نهبه او سلبه يجري احراق هذه المنشأت لطمس كل علائم تلك السرقات . لم يسلم من هذه السرقات شيء , فقد جرى تفكيك كل شيء قابل للتفكيك وانتزعت حتى الابواب والشبابيك والسقوف الثانوية والتأسيسات الكهربائية من المباني , بل تم قلع حتى حجر تغليف الابنية والبلاطات , واذا تعذر رفع او قلع اي شيء يجرى تحطيمه في مكانه . كانت الشاحنات التي يجري تحميلها تتجه بسرعة صوب الحدود باتجاه دول مجاورة حيث تباع المواد المنهوبة هناك بأبخس الاثمان . وبعد اقل من شهر تحولت ابنية الدوائر الحكومية والمؤسسات والمصانع والمدارس والكليات ومعسكرات الجيش الى مجرد هياكل وابنية مدمرة , واصبحت ليست اكثر من شواهد خاوية تنطق بصدق وحزن لكل من يراها لتصف مدى الوحشية والقسوة التي عوملت بها .

كانت اقوى نكسة تعرض لها التراث الثقافي العراقي هو ما حصل للمتاحف العراقية والمواقع الاثرية . كان في العراق قبل حرب الخليج الثالثة ثلاثة وثلاثون متحفاً تجمع فيها أهم الآثار العراقية النفيسة مادياً وتاريخياً . وبعد الاحتلال تركت هذه المتحف بدون حراسة او حماية بشكل متعمد لاتاحة الفرصة لنهبها وتدميرها . وبالفعل فقد نهبت هذه المتاحف نهبا لا يرحم , اما ما تعذر حمله وسرقته فقد جرى تدميره في موضعه . كان اكثر من تعرض للخسارة هو المتحف العراقي الذي يقع في بغداد - الكرخ . كان هذا المتحف يضم حوالي 100 ألف قطعة أثرية من كنوز الحضارات العراقية المتعاقبة منذ عصور ما قبل التاريخ حتى الألف الأول الميلادي . كان كل ما في هذا المتحف نفيسا ولايقدر بثمن ، مثل القطع التي تبين الطريقة التي استطاع فيها الإنسان أن يخترع الكتابة لأول مرة في الكون ، ويقدم للبشرية كيف يكتب الفكر وكيف تنقل الفكرة على الطين وعلى الرقم الطينية . كما يضم المتحف أول قيثارة صنعها الإنسان في التاريخ برأس العجل الذهبي المثبت عليها ، وملحمة (جلجامش) المسطرة والمكتوبة محفورة على لوحات من الرخام .  كما يوجد فيه الرقم الطينية التي تسجل شرائع (أورنمو) التي هي أقدم من شرائع (حمورابي) بحوالي 2000 سنة . كما توجد في المتحف ايضا أول بطارية صنعها الإنسان بقوة 25 وات كهربائي والتي اخترعتها الحضارة العراقية قبل آلاف السنين . كما توجد ايضا المخطوطات التي فيها المعادلات الرياضية في الزمن البابلي ، ومكتبة (آشور بانيبال) الملكية التي تحتوي على آلاف مؤلفة من اللوحات المرمرية والمنحوتة . هذا ناهيك عن التماثيل والنصب والمعدات والحلي والمجوهرات والتيجان والسيوف والخناجر واللوحات والقطع الاثرية بمخالف اشكالها . معظم ما يمكن حمله سرق ونهب , اما ما كان يصعب حمله فقد دمر في مكانه . كانت الضربة المباشرة الى وجهت الى هذا المتحف والتي تركته كالانسان المعوق الذي فقد ذراعيه وساقيه هي في تدمير كافة وثائقه وسجلاته . فقد تعرضت مكاتب المتحف الرسمية لعملية سحق منظم  وجرى حرق جميع الأوراق والملفات واتلاف وسرقة كافة الأفلام وأقراص الكمبيوتر والملفات من على الرفوف وتدميرها بالكامل . لقد سرق من المتحف العراقي حوالي 15000 قطعة أثرية جرى تهريبها الى دول اخرى وبيعها بالسر والعلن , ولم يسلم سوى بعض الكنوز الأثرية من الذهب التي كانت مودعة في أقبية المصرف المركزي في بغداد وفي أماكن أخرى سرية . وما جرى للمتحف العراقي جرى ايضا لبقية المتاحف الرئيسية في العراق حتى بلغ عدد ما سرق من هذه المتاحف ما يقارب مليون قطعة أثرية منقوشة أو منحوتة أو مخطوطة يوجد معظمها الان في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا . ومن الملفت للنظر هو ان بعض القطع المسروقة كانت من الضخامة بحيث  يستحيل سرقتها من قبل أفراد عاديين لكنها مع ذلك سرقت وهربت الى الخارج مما يؤكد بأن السرقة كانت منظمة وجرت من قبل جهات كانت عارفة ماذا تصنع . 

وكما حصل للمتاحف والمواقع الاثرية في العراق قد جرى ما يشبهه للمكتبات في العراق ايضا . ان ما جرى لمكتبات العراق من اعمال كان يراد به كما يبدوا طمس تاريخ الحضارة العربية برمتها وألحاق الأذى بها بقدر ما كان ذلك ممكنا . فقد تعرضت كافة مكتبات التراث القومي العراقي والعربي في ظل الاحتلال الذي اعقب حرب الخليج الثالثة الى النهب والسلب والحرق والاتلاف والتدمير . لقد جرى اولا سرقة  مخطوطة التلمود القديمة التي كانت في مكتبة الكفل اثناء تقدم قوات التحالف نحو بغداد . ولا يستبعد ان يكون ذلك قد تم من قبل  لصوص آثار محترفين تقدموا مع القوات الغازية.  وبعد اكتمال الاحتلال عاثت جموع من السراق والناهبين بالمكتبات العراقية نهبًا وتخريبًا وحرقا مخلفين وراءهم أكواماً من الكتب والمخطوطات أحالتها النيران الى رماد.  اهم المكتبات التي سرقت ودمرت هي المكتبة الوطنية , دار الوثائق والكتب , مكتبة الأوقاف وهي المكتبة الإسلامية الرئيسة في العراق , دار صدام للمخطوطات التي جمعت فيها آلاف المخطوطات من كافة نواحي العراق , مركز صدام للفنون الذي يحتوي على لوحات لاشهر الفنانين العراقيين , وغيرها من المكتبات العامة الموجودة في الجامعات والكليات والمؤسسات والأضرحة الدينية  . اما قطاع التعليم فكان نصيبه يشابه ما حصل لمؤسسات الدولة الاخرى . فقد تم نهب وسرقة كل شيء يمكن سرقته في الجامعات والكليات والمدارس من معدات ومختبرات وورش ومواد تعليمية , وجرى نهب حتى المقاعد الدراسية وتركت خاوية على عروشها وخالية حتى من مجرد مقعد يمكن استخدامه للجلوس .

ومن جملة ما جرى في حملة احداث عام 2003 هو واقعة تدمير مبنى الاذاعة والتلفزيون العراقي وسلب ونهب محتوياته . فبعد سقوط بغداد هجمت جموع من الناس على مبنى الاذاعة والتلفزيون العراقية واستباحت كل ما فيه من موجودات كما جرى تدمير وتحطيم كل شيء فيه . وكما هو حال الدوائر والمؤسسات الاخرى , فبعد نهب وتدمير محتوياته جرى حرقه لطمس اي علامة تدل على الفاعلين . وخلال الفترة التي تلت تلك الاحداث اخذت تظهر بعض موجودات دار الاذاعة والتلفزيون والبضائع المنهوبة منه وهي تباع على الارصفة في الطرقات . ومن بين تلك الموجودات التي كانت توضع على الارض وتعرض للبيع باثمان ليست عالية , بكرات تسجيل قديمة يمكن التنبؤ بعمرها من ملاحظة حجمها وشكلها وطبيعة حاوياتها . كانت الملصقات والعلامات الموجودة عليها تبين انواع واشكال مختلفة من الفهرسة مما يدلل بوضوح على انها تعود لدار الاذاعة والتلفزيون . غير ان ما كان موجودا على الارض ومعروض للبيع لم يعكس ابدا حقيقة ما يفترض بانه موجود فعلا في دار الاذاعة والتلفزيون التي ظلت عاملة لمدة قاربت السبعين عاما . فلم يكن من بين تلك المواد اشرطة سينمائية ولا كاسيتات فيديو ولا كاسيتات تسجيل وانما فقط كم محدود من بكرات التسجيل واسطوانات قديمة ليست ذات اهمية مما يدفع الى الاستنتاج بان القسم الرئيسي من موجودات هذه الدار لابد وان يكون قد صودر بطريقة مدروسة ومنظمة من قبل جهة عالمة بهذه الموجودات , وانه قد تم تسريبها الى اتجاهات محددة , وان النزر اليسير فقط ترك ليسرق من قبل الناس كتغطية على جريمة السرقة الاصلية . ومما يؤكد هذا الأعتقاد هو ان عدد كبير من محطات التلفزة الفضائية والاذاعات تم انشاؤه بعد تلك الاحداث والتي اخذت تظهر من خلال شاشاتها ومذياعاتها تسجيلات صوتية ومرئية تبين بوضوح بانها كانت من موجودات دار الاذاعة والتلفزيون العراقية . ويدلل هذا على ان تلك الموجودات التي نهبت قد تسربت بالاخر الى هذه المحطات بشكل او بأخر . 

ومؤخرا كشف المذيع العراقي المخضرم والاعلامي ابراهيم الزبيدي بعض المعلومات السريعة عن هذا الموضوع عرفها من خلال كونه أحد أعضاء اللجنة الاعلامية المكلفة بالأشراف على قطاع الأعلام عقب سقوط النظام السابق  , لكنه ترك تفاصيل عرض هذه الجريمة لحين صدور كتابه القادم ((دولة رماد .. وثائق سقوط الجمهورية العراقية )) الذي يتطرق فيه بشكل مسهب وبالأدلة الرسمية الموثقة لهذا الحدث . وقبيل صدور الكتاب قال الزبيدي بانه ذهب مع بعض الاشخاص إلى مركز شرطة السعدون لمعاينة مسروقات تلفزيونية ضبطتها الشرطة في منزل يقع في شارع أبو نواس ، وأنهم وجدوا أجهزة تلفزيونية وأفلاما سينمائية وأشرطة فيديو وأشرطة إذاعية بكميات هائلة . وبعد التدقيق تبين أنها تمثل جانب كبير من آرشيف الإذاعة والتلفوزيون منذ أيام الملك غازي وفيصل الثاني إلى أيام عبد الكريم قاسم ثم أيام البكر وصولا الى ايام صدام حسين , بالاضافة الى كميات ضخمة من الصور المهمة التي تمثل مختلف النشاطات في مختلف العصور التي مرت بالعراق . وقد طلب هؤلاء من الشرطة التحفظ على هذه الموجودات والتصرف فقط بالأجهزة لأنها بالاساس مخربة . ولكون اللجنة الإعلامية لم تملك في ذلك الوقت  قاعة مناسبة بمواصفات فنية صالحة لحفظ هذا الأرشيف ، فقد طلب الزبيدي من إدارة شبكة الإعلام العراقية أن تتسلم الأرشيف كاملا وتحفظه لديها لحين صدور قرار لاحق بشأنه . وبعد أسبوع أبلغت إدارة شبكة الإعلام الزبيدي بأن الأرشيف اختفى من الدار التي كان محفوظا فيها . وبعد مراجعة سجل التحقيق في حاكمية تحقيق الرصافة قال الزبيدي بان شخص معروف في ذلك الوقت هو (سعد عاصم الجنابي) قام باستلام الأرشيف كله ، وقام بنقله إلى مكان مجهول وان ذلك تم بأمر من ضابط أمريكي في قوات التحالف يخول هذا الشخص بتسلم الأرشيف . وقد وعد الزبيدي بكشف التفاصيل الكاملة لهذه العملية في كتابه القادم . ان ما يؤسف له حقاً هو ان هذه الخيانة الوطنية الكبرى قد مرت مرور الكرام على الرأي العام العراقي ، ولم تسمع اية احتجاجات جادة او مطالبة بفتح تحقيق في هذه القضية ومحاسبة المسؤولين عنها . 

تعتبر جريمة سرقة ونهب وتدمير ارشيف الاذاعة والتلفزيون العراقية واحدة من الجرائم الثقافية الكبرى في التاريخ لما في هذا الارشيف من كنوز لا تقدر بثمن تمثل تاريخ حضاري لشعب وبلد كامل . لقد ضاعت بهذه الجريمة ذاكرة العراق البصرية والسمعية التي تجمعت في هذا الأرشيف الثمين جدا , ومن المؤكد ان كل مواطن عراقي حريص على ذاكرة وطنه وتاريخه يشعر بالفجيعة لهذه الخسارة الفادحة التي طالت أحد أهم مصادر المعرفة لتاريخ العراق المعاصر . كان هذا الأرشيف هو أهم المصادر التوثيقية للفن والثقافة العراقية , وسجل تاريخي وطني كامل للدولة العراقية . كما انه سجل هام حفظ لأبناء هذا الوطن العديد من المحطات الثقافية والفنية والسياسية بالاضافة الى الكثير من تواريخ الأحداث وسجلات الشخصيات العامة . 

ان ما جرى استعراضه هو ليس نزر يسير مما تعرض له العراق ككل بعد عام 2003 لان ما جرى يصعب على الوصف ولا يمكن تصوره من قبل من لم يعش تلك الاحداث ابدا , كما ان الغاية من هذا المبحث هي ليست تقديم جرودات توثيقية عن المواد التي سرقت و دمرت . ومع ان الكثير من مظاهر تدمير الدولة جرت من قبل ابناء البلد انفسهم في حالة يصعب فهمها , لكن يجب ان لا نغفل بان قوات الاحتلال كان لها دورها الكبير ايضا في عمليات السرقة والنهب والتدمير التي حصلت . كما ان فرق مدربة قد دخلت الى العراق من ايران والكويت بعد الاحتلال مباشرة وقامت باعمال تدمير كبيرة للكثير من المرافق في البلد بدافع الانتقام من الحروب التي خاضها العراق مع تلك الدول . ومن الملفت للنظر بان جريمة تدمير وسرقة المؤسسات الاعلامية العراقية قد حدثت بالتزامن مع سرقة ونهب الآثار العراقية والمكتبات العامة وتدمير ممتلكات الكليات والجامعات وتحطيم امكانياتها , مما يعني بأن الارث التاريخي والثقافي والفني لهذا البلد كان هو المستهدف بشكل مخصوص ولغايات مقصودة . ان هذه المؤامرة الكبرى , وما سبقها وتلاها من مؤامرات خرى لم تكن تستهدف غير تضييع الهوية العربية لهذا البلد واخفاء معالم الوطنية الحقيقية لشعبه . وبالفعل فهذا ما جرى بالضبط , فقد كانت النتائج النهائية لما حصل في العراق بعد حرب الخليج الثالثة وما سبقتها من احداث على مدى اكثر من عقدين من الزمن هي عملية تدمير كاملة للتراث الثقافي والفني في العراق , وجرى طمس الكثير من تاريخ هذا البلد سواء القديم منه او الحديث الى الابد .

- يتبع -