منذ ان بدأت بالكتابة كنت احرص
دوما على ان لا أقحم نفسي بالسياسة , ليس لأني لا اجيد الكتابة بها , بل بالعكس فهي اكثر مرتع خصب يمكن ان يكتب به الانسان
. لكني كنت اتحاشى ان اكتب في هذا المجال لاني اعلم بان أفكاري ثائرة ومنتفضة بشكل
صارخ مما سيجعل كل ما يمكن ان اكتبه في هذا المضمار لأ يعجب الكثيرين وسيحولني الى
انسان اختلف مع اشخاص لا احب ان اكون على خلاف معهم . لذلك كنت اؤثر دوما على
الكتابة في المواضيع الثقافية والتراثية والتاريخية لاني اعلم مسبقا باني مهما
طرحت بهذه المواضيع من افكار وتحليلات خارجة عن المألوف فأنها لا يمكن ان تسبب
زوبعة مثلما يمكن ان تسببها المواضيع السياسية . لكني اليوم ساخرج قليلا عن المنوال
الذي التزمت به وساكتب قليلا بالسياسة منتقدا ما يجري في بلداننا العربية والذي
اصبح حالة لا تستساغ بشكل غير معقول .
قبل عدة سنوات ارغمتني الظروف على ترك الاوطان والأستقرار بعيدا في منطقة لست لا أئلفها , لكني أتيتها
بعمر متأخر قليلا , ولو كنت قد وصلت اليها قبل عشرين او ثلاثين سنة
ماضية لكانت احوالي بالتأكيد ليست على ما هي عليه اليوم . وفي المنطقة التي اعيش بها حرصت كل
الحرص على ان اكون على اطلاع على كل ما يجري في أوطاننا مهما كانت بعيدة , وعلى علم بكل ما يحدث فيها
اولا بأول وكأني لا زلت اعيش هناك . فمن الاشياء التي حرصت عليها , وانا انتقد نفسي
على هذا بشدة , هو اني ظللت اتابع نشرات الاخبار العربية واشاهد قنواتنا الفضائية ساعة
بساعة , حتى اكثر بكثير مما اشاهده عن البلد الذي انا فيه . لقد جعلني هذا على بينة من
كل كبيرة وصغيرة تحصل في وطننا الام , بينما لا اعرف الكثير مما يجري في المنطقة
التي اعيش بها . ومع عدم رضائي عن هذا الحال لكني داومت عليه محبا او كارها .
كعراقي , حرصت في البداية على
ان اتابع كل ما يجري بالعراق . كنت ارى يوميا من خلال الاخبار كل ما كان يحصل بهذا
البلد من تدمير وتفجيرات وقتل وتهجير ومذابح وصراع على المناصب والسلطة واقتتال
بين المليشيات وحرب طائفية ودينية وسرقات ونهب للاموال وبمقادير فلكية يصعب للمرء
ان يتصورها , والكثير الكثير من غير ذلك . كنت اعجب لما يجري بهذا البلد الذي حباه
الله بكل ما يمكن او يهبه لبلد من البلدان . وكنت استغرب من هذا الشعب الذي يفعل
بنفسه كل هذه الافاعيل دون ان يعي ويستوعب ما يفعله . وكنت اسال نفسي لماذا ...
ولماذا ؟؟؟ على عشرات الأمور دون ان اجد لها جواب . واخيرا اقتنعت باننا حالة
ميئوس منها وان حالنا لن يتغير , وأمنت بما قاله احد الكتاب في يوم من الايام
باننا (شعب لا يستحي) وأننا نستحق كل الغضب الذي انزلته بنا السماء .
لكن , منذ حوالي عامين أدارت
الكامرة بؤرة عدستها وانتقلت لتصور مواقع اخرى من وطننا الكبير بعد ان حصل فيها ما
يسمى بثورات (الربيع العربي) . في البداية اخذتني الحمية وظننت بان شعوبنا استيقظت
أخيرا من رقدتها الطويلة وأحست بالظلم والجور والحياة البائسة التي تعيشها واطلقت
صرختها مدوية ومنادية بالحرية التي تعيش بها كل شعوب العالم فتعاطفت مع كل ما يجري
هناك . دفعني هذا الحماس الى ان احول اهتمامي الى تلك المناطق من اوطاننا وان
اتابع ما يجري فيها بدقة . لكن الامر تكشف لي بعد مدة ليست بطويلة وشعرت بان تطورا
غير منتظرا وتحولا خطيرا قد حصل هناك . لقد تحولت المشاهد التي كنا نراها من مظاهرات
سلمية لجماهير تسعى نحو الحرية والديمقراطية الى شيء اخر لا يمت بصلة لهذا ولم
يحصل من قبل في أي من الدول المتحضرة التي تعيش بها شعوب يمكن ان يقال عنها شعوب انسانية
. قامت الدنيا ولم تقعد , وتحولت التظاهرات السلمية وثورات الحرية الى حروب ومعارك
ضارية من المستحيل بان يقال عنها بانها افعال لشعوب منتفضة على حكامها . لقد جرى
تعريق كل المنطقة العربية من المغرب العربي الى شرقه الاوسط , ومن الجنوب العربي الى
شماله . جيشت الجيوش وشكلت المليشيات واقيمت معسكرات التدريب وتدفقت الاسلحة والمعدات
واستعرت حروب طاحنة لا يمكن تصورها . قتل ودمار ومعارك وارهاب وذبح ومفخخات وقصف
وخراب ليس له مثيل . موت مجاني بلا ثمن ودماء تراق بلا مسوغ . تهجير ولاجئين في كل
مكان . جيوش عربية عريقة دمرت وفتت وقضي على كل اسلحتها وحطم وسرق كل ما في جعبتها
من امكانيات . مدن عربية كانت أمنة تعيش بسلام لمئات السنين اذا بها تشتعل كعود
الثقاب ليدمر كل ما فيها من مظاهر حضارية . ارهاب عشعش في كل الاماكن , وحروب
طائفية مختلفة الاشكال سادت في كل البلدان , ومشاريع لامارات ضعيفة ومتناحرة اصبح مطروحا
في كل البقاع .
مالذي
جرى , وما الذي حدث وما
هذا الذي حصل . هل يساوي التخلص من حاكم مهما كان ظالما وجائرا كل هذا
الثمن الذي
يدفع . عشرات , وحتى مئات الالوف من البشر الابرياء قتلوا في سبيل نتيجة لا
تتناسب
ابدا مع حجم هذه التضحيات . ولماذا سكت على هؤلاء الحكام الظلمة لعشرات
السنين دون
ان يثور ضدهم حتى معارض واحد . ومالذي تغير حتى تنزل كل هذه الشجاعة فجأة
من
السماء بقدرة قادر على الشعوب التي يحكمونها ليثوروا ضدهم وبهذه الطريقة
العنيفة . وماذا ستجني هذه الشعوب الثائرة بعد ان يسقط هؤلاء الحكام لو
تدرك غير بلدان مدمرة
واقتصاد محطم وجيوش منقسمة ومفتتة وضعيفة لا تستطيع ان تحمي اراضيها . وهل
ستنال تلك
الشعوب غير حكام ضعفاء متناحرين واحزاب متصارعة ومليشيات متنازعة يصعب نزع
سلاحها . ثم ماذا حصل فعلا
في البلدان التي يزعم بانها تحررت ونجحت الثورات الشعبية فيها بسرعة غير ان اصبح بها
رغيف الخبز حلما وساعة الكهرباء المنتظمة أملا . أهذا هو الغد الذي حلمنا به ؟ أهذا هو
المستقبل الامن الذي طمحنا به لاولادنا ؟ أهذا هو حلم دولة الوحدة العربية التي تمنيناها
ونحن صغار ؟ أهذا هو نشيد القومية العربية الذي انشدناه ونحن طلاب ؟ أهذه هي دولة السلام
والحضارة والتقدم التي كنا نتمنى ان نعيش بها ؟
لا اريد ان ازيد على ما قلته
غير , لقد سأمت حقيقة من كل ما يجري باراضينا , وبت أكره كل نشرة اخبار تأتي من
مناطقنا . لقد اصبحت اقول الان مع نفسي بكل صراحة "تبا لما يجري في
اوطاننا" . أخيرا , قررت بان احطم جهاز قنواتي الفضائية واتخلص من كل الاجهزة
التي تجعلني اشاهد ما يحدث هناك , في تلك الاوطان التي يزيد ما يحصل فيها بعدها عني .
وسام الشالجي
وسام الشالجي