نظرت الى نفسي في المرأة .... فلم ابصر غير هيئة هزيلة ,
عينان غائرتان ووجنتان بارزتان لا يمكن ان يوصف من يقف خلفهما اكثر من , بقايا
انسان . سألت نفسي ... هل هذا انا ؟ هل هذا من كان بالامس صبيا جميلا ؟ لا ... نعم
... طارت من فمي الكلمات . نظرت جانبا الى مكتبي الصغيرة الشبه خاوية لاسحب منها
البوم صوري لكن استوقفني سؤالا صغيرا , لماذا مكتبتي خاوية ؟ ولماذا ليس فيها مما
يقرأ الا القليل ؟ لم يكن عسيرا علي ان اجيب , فلماذا تكون مكتبتي عامرة .. ومنذ
متى أنا اميل الى القراءة ؟ جررت منها البومي القديم الوحيد وفتشت فيه , سحبت من
بين صفحاته صورة جميلة هي صورتي قبل سنين طويلة . جئت بها ووضعتها بيدي على نفس تلك
المرأة ثم نظرت الى الوجهين . هل كان هذا هو هذا ؟ لم اجد شبها , بل كل ما وجدته هو
ان هذا قد يكون شبح لهذا . ضاقت نفسي على نفسي ورميت بها على الكرسي الوحيد بغرفتي
. فعلت ما لا اعرف ان افعل غيره , أشعلت سيكارة وأخذت نفسا عميقا منها . وكعادتي لم
تجد السحب البيضاء التي دخلت صدري منفذا الى خارجي غير مناخري . دفعت بها بعيدا فاذا
بها تنساب كمخروطين من انفي . كنت لا ازال ارى منظري بالمرأة . ما هذا الذي اراه
امامي ... تذكرت شكل التنين الذي ينفث النار من مناخيره وقلت , هل أنا تنين ؟ لا
يبدوا ذلك , فالتنين قوي جبار يطلق النار وانا ضعيف منهار انفث الدخان . اخذت نفسا
أخرا ونفثته هذه المرة من فمي الى الاعلى ونظرت الى المراة مرة اخرى . ذكرني ما
شاهدته بمنظر سحابة دخان القاطرة البخارية التي كانت تسحب القطار الذي كان يأخذني
الى مدينتي في صغري . كم كنت اعشق تلك لقاطرة وكم كنت احب ذلك القطار . هل انا الان
قاطرة بخارية ؟ لا , فانا لا استطيع ان اسحب حتى نفسي . ماذا انا اذن ؟ لا اعرف . تطلعت
بسقف الغرفة وسالت نفسي نفس السؤال ثانية . ومرة اخرى لم تكن عندي اجابة . لماذا
تبلدت هكذا ؟ اخذت افتش بذاكرتي بقوة عن ماذا كنت اريد من أناي ان تكون ؟ ذهبت
بذاكرتي بعيدا فتذكرت كم كانت أحلامي كبيرة وكثيرة . لكن ماذا بقي منها الان ؟ لا
شيء ... فلست انا الان غير احمق ضعيف لا يفعل شيء غير تنشق الدخان . في بعثرة
افكاري هذه كانت قد احترقت كل سيكارتي التي بين اصابعي , اطفئتها ومن جديد مددت
يدي الى الطاولة الموجودة الى جانبي وسحبت تلك العلبة مرة اخرى . توقفت قليلا
ونظرت اليها . كم تبدلت الوان تلك العلبة وتغير شكلها خلال حياتي . زرقاء , بيضاء
, حمراء , برتقالي , ذهبي ؟ كثيرا ما تبدلت حسب ما موجود بجيبي . ترى كم انفقت من
النقود على شراء هذا العلب . حتما كثير جدا ... لكني لا اريد ان احسب فالحسبة
تفزعني . مددت اصابعي وسحبت سيكارة أخرى وتبصرت فيها قبل ان اشعلها . ما هذه الهيئة ؟
لماذا هي تشبه هيئة جدي بدشداشته البيضاء وعمامته البرتقالية . لا زلت اذكر جدي .
كم كان طاعنا بالسن , وكم كان وجهه مليء بالخطوط الطويلة والتجاعيد العميقة . لم
يحتضنني ابدا . ترى لماذا لم يفعل ذلك ؟ هل كان يكرهني ؟ ربما . وهل ساعيش بقدر
عمر جدي ؟ لا اظن . وهل سيصبح وجهي مثل وجهه ؟ اكيد , ولكني لن احتاج لعمره لكي يصبح
كذلك فانا الان اكاد اكون مثله . عدت الى سيكارتي وشممتها وقلت , الله ... كم طيبة
رائحتها . ترى كم مضى علي وانا اتعاطى الدخان . عشرين ؟ ثلاثين سنة . ياه ... ايعقل
ان يكون زمني مع هذه السيكارة بهذا القدر من الاعوام ؟ ترى ما هو شكل صدري الان ؟ لابد
انه يشبه منظر تنور الخبز الاسود الملتهب في المخبز القريب من دارنا الذي كانت
جدتي تبعثني اليه لاشتري الخبز كل صباح . لكن ... لماذا كانت توقظني جدتي من الفجر وتبعث
بي الى ذلك الخباز كل يوم ؟ الم يكن يوجد قي البيت غيري ؟ كم كنت اجدها ظالمة . كان الجميع يبقون
نائمين الا أنا لان علي الاستيقاظ وجلب خبز الصباح . ثم لماذا كانت تقضي جدتي معظم ساعات
الليل مستيقظة على فراشها تشعل سيكارة تلو اخرى ؟ مالذي كان يجعلها لا تنام ؟ هل
كانت حزينة ؟ هل كان جدي يكرهها ؟ ربما ,
لكن ... ومالذي يجعلني انا ايضا الان اشعل سيكارة تلو الاخرى مثلها ... هل انا حزين ؟ لابد ,
فانا اعلم باني حزين وفي داخلي الم دفين . لكن ... هل السيكارة تذهب المي فعلا ؟ كلا ... لا
اعتقد ذلك , فلو كانت كذلك لما اشعلت واحدة بعد واحدة دون ان يذهب المي او يخف
حزني . هل اصبحت كجدتي في ليلها مع سكائرها وكجدي في كرهه لها ؟ لكن ... لماذا تلتصق
في مخيلتي صورة الاجداد . هل عجز عقلي ان يجد شيء يفكر فيه غير ذكرى هؤلاء الاموات
؟ موت ... ياه كم ترعبني هذه الكلمة . لكن .... كيف تخاف ايها التنين من الموت وانت
ترقص فوق حباله كل دقيقة . ترى ماذا لو مت بسبب سكائري ؟ ماذا سيقال عني ؟ مسكين
مات بسبب الدخان . هل استحق هذه النهاية ؟ وهل لن يكون هناك من شيء فعلته في حياتي
غير تدخين سيكارة ؟ هل هذا هو فقط ما ساخرج به من هذه الدنيا ؟ موت بسبب الدخان .
يا للنهاية التعيسة والسخيفة . لكن ماذا استطيع ان افعل فانا لست غير حفيد جدي وجدتي
؟ هكذا انا ... دائما لا يوجد عندي ما ابرره لنفسي غير هذا , فلو كان كل انسان لم
يصبح الا كجده وجدته لما وجدنا شيئا جديدا في هذه الدنيا . لكن هل استطيع ان افعل ما
لم يستطيعا ان يفعلاه ؟ كلا فانا لا استطيع ان افعل شيئا لاني العجز بكل معناه . تذكرت
سيكارتي التي لا زالت بين اصابعي . وقبل ان اسوقها الى فمي نظرت الى تلك الاصابع
التي تمسكها . ما هذه الاصابع الصفراء ؟ كل شيء في اصبح مصفرا . وجهي , شفتاي ,
انفي , شاربي واصابعي . نظرت الى نفسي في المرأة مرة اخرى وقلت , مسكينة هي زوجتي
, ترى كيف تطيقني حين اقبلها وانا لا اطيق نفسي . أه ... لهذا لم تعد تحب ان
اقبلها . ترى هل تكرهني بسبب صفاري وشحوبي ورائحتي ؟ حتما ان زوجتي اصبحت تكرهني
ولا تحتملني كما كان يكره جدي جدتي . لكن كيف اريدها ان تحتملني وكل شيء في اصبح قبيحا
. لم يعد هناك شيء جميل في حياتي فكل احساسي تبخر وكل شعوري تبدد حتى عواطفي فقدت
عنفوانها . كل ذكرياتي اصبحت بلا مذاق , طفولتي , شبابي , مشاعري , ذكرى قطاري
وذكرى جدي وجدتي . أأأأأأأأه .... ماذا يمكنني ان افعل ؟ انا يائس ... انا عاجز .
لكن , رويدا ... ايعجبني منظري هذا ؟ ايروق لي حالي هذا ؟ هل اريد ان ابقى تنينا هزيلا
ينفث الدخان بدل ان ينفث النار ؟ كلااااااااا .... لن اكونه , ولن ادخن السكائر ليلا كجدتي , ولن
ادع زوجتي تكرهني كما كان يكره جدي جدتي , ولن يكون وجهي خريطة كوجهه , ولن اعيش
بقدر عمره بل ساجعل سنيني تفوق بعددها سنينه , ولن أعيش لاستنشق الدخان فقط بل ساهجره
واحاول ان اصبح شيئا في هذا الزمان . وفجأة انبعثت قوة هائلة من داخلي وتملكني عزم
عظيم انطلق من اعماقي وقررت ان افعل ما عجزت ان افعله طيلة عمري ... قررت ان اترك
الدخان . مددت يدي نحو تلك العلبة االزرقاء مرة اخرى وفتحتها وكان لا يزال فيها
نصفها . وانا على وشك ان أجعصها ضعفت قليلا وسمعت من يهتف من داخلي من ينادي ويقول , لماذا
العجلة ؟ أكمل ما فيها ثم أمضي لفعل ما قررته . كنت على وشك الاستجابة لهذا الهاتف
لكن ... كان هناك شيء اقوى منه قال لي , أتركها الان وهي ملئى قبل ان تتركك وانت خواء . جعصتها
باصابعي الصفراء ومن يومها ما عدت اليها وللدخان مرة اخرى .
وسام الشالجي