اخر المواضيع في المدونة

الجمعة، 31 مارس 2017

يوسف عمر - من وراء القضبان إلى عرش وصولجان

 بقلم
وسام الشالجي




ولد الفنان يوسف عمر في بغداد - محلة جديد حسن باشا عام 1918 . ومحلة جديد حسن باشا محلة بغدادية تقع بين شارع الرشيد ونهر دجلة يحدها من الشمال سوق هرج في الميدان ومن الجنوب شارع المتنبي , وكانت هذه المحلة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين من أشهر محلات بغداد اذ كانت تأوي أشهر العوائل البغدادية التي أنجبت رجالات الحكم ومشاهير ذلك العصر . وكانت البيئة السائدة في تلك المحلة تضم مجتمعات نشأت على حفظ وقراءة القرآن الكريم وإقامة المناقب النبوية التي يتخللها التهاليل وإنشاد المقامات العراقية . كان ليوسف عمر شقيقان وثلاث شقيقات ,  وقد توفي والده وهو بعمر لا يتجاوز الأربعة أشهر فتكفل برعايتهم جميعا ابن عم والده (محمد علي) الذي كان يوسف يعتبره بمكانة عمه . وكان (محمد علي) محبا للغناء بصورة عامة وللمقام العراقي بصورة خاصة , وكان يهوى جمع الاسطوانات التي كانت تصدر في ذلك الزمان . وقد كان يوسف يستمع لتلك الاسطوانات من خلال جهاز الكرامافون الذي يمتلكه عمه . ومن بين كل أنواع الأغاني والفنون التي كان يستمع اليها أحب الطفل يوسف عمر المقام العراقي منذ بداية نشأته , وأصبح يكثر من الاستماع لقراء المقام المشهورين في تلك الحقبة مثل رشيد القندرجي واحمد الزيدان ونجم الشيخلي وحسين كردي وحسن خيوكه والحاج عباس كمبير وقدوري العيشة وغيرهم واخذ يردد مقاماتهم ويتعلم أنواعها المختلفة .

شب يوسف عمر وهو مولع بالمقام العراقي واخذ يحاول التقرب من بعض قراءه المشهورين في ذلك الزمان أمثال إبراهيم الخشالي وغالب الخشالي وجهاد الدبو , كما حاول الالتقاء بالمقامي الكبير محمد القبانجي . لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن فيما يخص ولعه هذا وحتى بما يتعلق بحياته كشاب في مقتبل العمر . فقد اتهم يوسف عمر في مطلع شبابه بقتل احد الأشخاص وحكم عليه بالسجن لمدة 15 سنة قضاها فعلا . ولا يعرف الكثير عن حقيقة هذه القضية التي أدت إلى سجن يوسف عمر , حتى انه نفسه كان يتكتم عليها ويتحاشاها ولا يذكرها في أحاديثه بالمرة , لكني سمعت في السبعينات من احد أخوالي الذي كان يعشق المقام العراقي قصة رواها لي عن سبب سجن يوسف عمر لا اعرف مدى صحتها . قال لي خالي بان الحادث وقع في إحدى ألليال في منتصف النصف الاول من عقد الثلاثينات في القرن الماضي حين كان يوسف عمر مارا بأحد أزقة بغداد فسمع صراخ احد الصبيان مما جعله يقترب من الموقع الذي أتى منه الصراخ . وحين اقترب من المكان رأى رجلا يحاول اغتصاب صبي صغير . ما إن رأى الصبي يوسف عمر حتى صاح به (عمو... عمو الله يخليك خلصني) , فما كان من يوسف عمر إلا أن هجم على الرجل بقوة ليبعده عن الصبي , فحصلت معركة شديدة بين الرجلين أدت إلى مقتل الرجل المعتدي . لا يوجد ما يؤكد هذه الواقعة , لكن بالتأكيد إن خالي لم يخترعها من نفسه بل هو حتما سمعها من احد المصادر , ولابد ان يكون بعض ما فيها صحيحا . إن ما كان يدعيه الفنان يوسف عمر أثناء قضائه لفترة محكوميته بأنه سجن ظلما , كما أن تكتمه وعدم تحدثه عن هذه الحادثة بسبب حساسية مثل هذه المواضيع قد يكونان مع بعضهما مؤشران على أن الحادث كان بشكل او بأخر قريبا من هذه القصة . وفي السجن كان يوسف عمر يقرأ المقام العراقي باستمرار, وكان يطرب بهذا الغناء السجناء ويبث فيهم وفي نفسه روح البهجة ويزيل عنهم وعنه مشاعر الأسى والحزن . الشيء الأخر الذي يمكن ان توحيه هذه الحادثة هو ان سنة ولادة يوسف عمر في سنة 1918 عليها بعض ظلال الشك . ان سنة وقوع حادثة القتل كما تروي الوقائع كان في عام 1933 , ان من غير المعقول ان يرتكب يوسف عمر حادثة القتل وهو لا يزال فتى قاصر عمره لا يزيد عن 15 سنة ثم يحكم عليه بعد ذلك بالسحن لمدة 15 سنة . ان هذه الحادثة تعطي الانطباع بان عمر يوسف عمر كان ما لا يقل عن 18 سنة عند وقوعها او حتى اكثر , مما يشير على ان سنة ولادته لا تتجاوز عام 1915 على اقل تقدير ,

وفي سنة 1948 اطلق سراح يوسف عمر من السجن بعد انتهاء فترة محكوميته التي بلغت 15 عاماً . وبعد خروجه من السجن تعرف يوسف عمر على المقامي المشهور (سلمان موشي) وهو خبير مقامات كان يعمل في إذاعة بغداد اللاسلكية في ذلك الوقت واخذ يسمعه بعض أدائاته من المقام العراقي . أعجب سلمان موشي بيوسف عمر وطلب منه ان يتقدم للاختبار في دار الإذاعة العراقية . اختار يوسف عمر حين تقدم للاختبار في الإذاعة واحد من أصعب المقامات وهو مقام الرست الذي يعتبر سيمفونية المقامات العراقية ’ وبقصيدة (غيري على السلوان قادر/ وسواي في العشاق غادر) فأدهش بها أعضاء اللجنة مما جعلها على الفور تعتمده كقاريء للمقام العراقي في إذاعة بغداد . أخذ يوسف عمر يقدم حفلات أسبوعية غنائية ومقامية من دار الاذاعة فذاع صيته واشتهر اسمه . وكان في ادائاته تلك يقلد رشيد القندرجي والحاج عباس الشيخلي ونجم الشيخلي وعبد القادر حسون وغيرهم . لفت صوت يوسف عمر الفنان الكبير محمد القبنجي إذ وجد في حنجرته خامة صوتية رائعة مما دفعه إلى تبني هذه الموهبة الشابة واخذ يرعاها من خلال الإرشاد والتعليم . وكان يوسف عمر يحترم كثيرا الفنان القبنجي ويعتبره رائد المقام العراقي الأول ولم يحاول قط إن يتجاوز على مكانته أو يقلده تقليدا أعمى . وحين كان البعض يناديه بكلمة (أستاذ) كان يقول لهم: لا تقولوا عني (أستاذ) فأستاذ المقام العراقي محمد القبنجي موجود . وبعد فترة قصيرة من دخوله الإذاعة احترف يوسف عمر الغناء وأبدع به وأصبح له لون غنائي خاص به وأجاد أداء جميع أنواع المقام العراقي وتفنن به حتى أصبح مدرسة مقامية بحد ذاتها , وتمكن من خلال الحفلات التي كان يقيمها من جعل المقام العراقي فن شائع ومرغوب على المستوى الشعبي . كما ابدع يوسف عمر أيضا بغنائه للابوذية , وغنى أيضا العتابة والسويحلي وتأثر بالفنانين عبد الامير الطويرجاوي وابو جيشي .

في سنة 1956 أشترك يوسف في الفلم العراقي الشهير (سعيد أفندي) الذي كان من بطولة الفنانة الراحلة زينب والفنان يوسف العاني وجعفر السعدي حيث غنى فيه شعر وأبوذيه من نغم الصبا مع دعبول البلام , وكانت هذه تجربته الوحيدة بالظهور في فلم سينمائي . وفي عام 1956 أيضا تم افتتاح محطة تلفزيون بغداد كأول محطة تلفاز في الشرق الأوسط , واخذ يوسف عمر يغني على الهواء في هذه المحطة فأصبح بذلك مطرباً مقامياً تلفزيونياً مما زاد في شهرته واتساع ساحته المقامية والغنائية وزاد جمهوره ومحبيه بشكل كبير . كما شارك في السبعينات في كافة حلقات البرنامج التلفزيوني التمثيلي والغنائي ( كهوة عزاوي) وغنى فيه العديد من المقامات العراقية . ويبدوا بان الفنان يوسف عمر كان يهوى إلى حد ما التمثيل اذ اشترك مع الفنان الراحل محمد القيسي وفي إحدى الأمسيات في تمثيلية تلفزيونية أدى فيها دور شخصية المقامي الكبير شلتاغ وغنى بالتمثيلية مقام الفوريات والتفليس باللغة التركية .

وبعد افتتاح المتحف البغدادي في أوائل السبعينات أصبحت تقام على ساحة هذا المتحف حفلات مقامية أسبوعية عصر كل يوم جمعة كان رائدها الأول الفنان يوسف عمر بمشاركة فرقة الجالغي البغدادي . وفي السبعينات أيضا تم افتتاح مطعم خان مرجان في شارع الرشيد كمطعم تراثي واخذ يوسف عمر يحي فيه حفلات مقامية بشكل شبه يومي حتى أصبح هذا المطعم ويوسف عمر كيانا واحدا بحيث لا يمكن ان تستبعد ذكر أي منهما حين يأتي ذكر الآخر . وبالإضافة إلى كل هذا كان يوسف عمر يحي الحفلات في اغلب مناسبات البيوت البغدادية الكبيرة او بيوتات المحافظات وهناك تسجيلات رائعة لهذا الفنان مدفونة في أدراج وخزانات تلك البيوتات . أما نشاطاته خارج القطر فكانت حافلة , فقد سافر الى العديد من الدول العربية والأوربية مثل مصر، سوريا، الإمارات، لبنان ، تركيا ، روسيا وايران وفنلندا وديترويت في أميركا واحيا في تلك الدول حفلات جميلة حضرتها الجاليات العراقية والعربية حيث نال إعجاب واستحسان كل من حضر حفلاته .

في بداية دخوله الاذاعة كان يعزف للفنان يوسف عمر في حفلاته الإذاعية العديد من الموسيقيين أمثال جميل بشير , خضير الشبلي , منير بشير , خضر اليأس , حسين عبدا لله وغيرهم . لكن بعد ان اشتهر وذاع صيته ألف لنفسه فرقة موسيقية خاصة به مكونه من المرحوم شعوبي إبراهيم , محمد زكي , عدنان الاعظمي  وجمال زكي .  وكان الفنان شعوبي إبراهيم ملازما له في معظم حفلاته حتى أصبح من الصعب تصور حفلة يغني بها يوسف عمر ما لم يكن خلفه على الجوزة الفنان شعوبي إبراهيم . ليس هذا فقط بل كان الفنان شعوبي وفي كثير من البستات والأغنيات يصاحب بصوته الفنان يوسف عمر أو يؤدي دور الرادود بعده كما يظهر جليا في أغنية (داري) . لقد أصبح الفنان شعوبي إبراهيم  شيئا فشيئا بمثابة الصولجان للفنان يوسف عمر خاصة بعد أن ارتفعت  مكانته إلى درجة اعتبر فيها متربعا على عرش المقام العراقي اثر تقدم سن رائده الفنان محمد القبنجي .

توقف يوسف عمر عن الغناء عام 1985 بعد ان بدأت تظهر عليه علامات الوهن وأخذت تتطاير من ذهنه الكلمات نتيجة للنسيان الذي اخذ يصيبه اثر تقدم عمره . وفي ليلة 14 على 15 تموز من عام 1986 غادر هذه الدنيا بعد ان استمر بعطائه الفني لمدة قاربت الأربعين عاما فانطوت بذلك صفحة خالدة من صفحات فن المقام العراقي .

لقد كان يوسف عمر علامة بارزة في الفن العراقي كفنان أصيل وغير مقلد , كما كانت هيئته صورة حية وناطقة للشكل البغدادي الأصيل . أما لمحاته حين يؤدي المقاطع المقاميه فأنها تترك في النفس دفئا جميلا مفعما بالحنين إلى كل شيء بغدادي . فما أن يسمع المرء بستاته الجميلة حتى تجعله يتصور نفسه وهو يمر في أزقة (درابين) بغداد وأسواقها , ويشعر وكأنه يتبع جميلات بغداد المتشحات بعبائاتهن عله يسترق مرئى من هذه او تلك ليطفأ من بعض جمالاتهن ظمئا كبيرا في النفس .

بورك فناننا الكبير (يوسف عمر) الذي تمجد بإبداعاته الفن العراقي وتعالت بغزير عطائه صفحة المقام العراقي حتى أصبحت علامة مميزة من ميزات التراث الثقافي العراقي . ورحم الله فناننا الكبير وطيب ثراه وألحقه بالصالحين وتعطرت ذكراه على مدى الدهور والازمان .



وسام الشالجي
21 أذار 2012
بمناسبة اقامة الاحتفالية الكبرى للفنان يوسف عمر
في ذكرى رحيله الخامسة والعشرين  

هناك تعليقان (2) :

غير معرف يقول...

حقيقة دخول يوسف عمر للسجن هي ان يوسف عمر كان يغتصب طفل والطفل يمكن كان جاره او كان ابن مرته وهذه الحقيقه سامعه من مصدر موثوق كان صديق يوسف عمر

Miss MAQUILLAGE يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.