اخر المواضيع في المدونة

الخميس، 20 أغسطس 2020

إذا كان هذا هو الحال بتاريخنا المعاصر , فما هو الحال بتاريخنا القديم؟


بقلم وسام الشالجي

 

أطلقت بالشهور القليلة الماضية عدة فيديوات تتحدث عن تاريخ بعض الشخصيات التي تبوأت مناصب متقدمة في الدولة العراقية بعصرنا الحديث . وقد راعيت في إعدادي لتلك الفيديوات الحيادية المطلقة وحرصت بأن قدمها للمشاهد بشكل غير منحاز , بل وحتى من دون التعقيب على ما فيها من وقائع واحداث حفاظا على الامانة التاريخية في نقل الحدث وبنفس الوقت تعريف المشاهد بما وقع فعلا من دون أي إضافات . وقد ساعدني في إطلاق تلك الفيديوات شيئان , الأول هو عمري المتقدم الذي جعلني أعايش بعض تلك الأحداث , أو على الاقل كنت قريبا من زمن وقوعها مما جعلني على علم تام بها وبأحداثها . والثاني هو الثقافة الواسعة التي تكون عندي من قراءاتي وإطلاعي على المصادر التاريخية التي تحدثت عن تلك الوقائع والاحداث . ولأن وقت الفيديو قصير لا يمكن المعد بالتحدث خلاله عن كل شيء ذو علاقة بالحدث , ولأن ما متوفر من صور حقيقية عن تلك الأحداث قليل فقد دفعني الأمر إلى إعداد بعض الصور بنفسي من أجل تقريب الوصف أمام المشاهد وجعله يتصور بشكل واقعي ما حدث ويقرب الوقائع إلى ذهنه . ومع ذلك فقد ظلت تلك الفيديوات وما فيها من معلومات مقتضبة وغير وافية ولم تغطي كل شيء يتعلق بالحدث التاريخي الذي تتحدث عنه . وبرغم هذا وذاك فأنا راضي عن تلك الفيديوات وأعتقد بأنها تفي بشكل لا باس به بالغرض الذي اردته منها , وإن قدر المعلومات الواردة فيها معقول ويمكن أن يغطي الحدث الذي اردت تصويره وتقديمه للمشاهد . لكن ما أنا غير راضي عنه هو ضعف القدرات الفنية وقلة المهارات التقنية ومحدودية الإمكانيات التي تمكنني من إخراج فيديوات إحترافية معدة بتقنية عالية يمكن أن تاخذ مكانتها اللائقة بين فيديوات وأفلام عصرنا الراهن التي اصبحت تستخدم أقصى درجات الحرفية وتعد من قبل مختصين وفق برامج ذات إمكانية عالية ليس من السهل على المستخدم العادي أن يتقنها من دون قدر متقدم من الخبرات والتجربة في هذا المجال . ومع ذلك فإن ما تلقيته من شهادات وإنطباعات عن تلك الفيديوات يوحي تماما بانها قد حققت أغراضها سواء من ناحية المعلومات أو من الناحية الفنية .

 

ما دونته أعلاه ليس هو الغرض الرئيسي من مقالي هذا بل كان مجرد مقدمة اريد بواسطتها أن أتوغل لما أريد قوله بالخصوص بهذا المقال . لقد تلقيت كم كبير من التعليقات والتعقيبات على الفيديوات التي اطلقتها بلغ المئات على بعضها , ويكان لا يخلو اي منها من التعليقات المرافقة . لكن الأمر الذي يلفت النظر هو فحوى تلك التعليقات , فقد هالني بشكل لا يصدق ما هو مضمون فيها . لقد كانت اغلب التعليقات قد أتتني من مشاهدين لا أعرفهم ولا يعرفوني وليست لي صلة بهم بل هم دخلوا على الفيديوات من خلال المواقع التي نشرت الإعلان عنها فيها . وقد صنفت العليقات التي جاءت على فيديواتي إلى الاصناف التالية

1-    (المثقفون) : أطلقت هذه الفئة تعقيبات إيجابية تنم عن علم ومعرفة وفهم وموضوعية , وقد أعجبت أغلبها عن تلك الفيديوات ورضيت عن ما فيها

2-    (المنحازون) : صدرت عن هذه الفئة تعقيبات منحازة بشكل جارف جعلت أصحابها أما يرضون جدا عن الفيديو إذا كان يوافق أمزجتهم ويطلقون حوله عبارات المديح والشكر , أو يرفضونه بشدة إذا كان لا يتوافق مع افكارهم ويتهمونه بالكذب والتزوير

3-    (الجهلة) : وهي تعقيبات تنم عن جهل مطبق دحض أصحابها المعلومات التي جاءت بالفيديو وسطروا بالمقابل في تعليقاتهم معلومات غير صحيحة بالمرة وتعطي الإنطباع بأن أدمغتهم قد إحشيت بمعلومات مغلوطة كليا ولا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد عن الحدث الذي يتحدث عنه الفيديو

4-    (الغير مؤدبون) : وهي تعقيبات تعبر عن سوء تربية لا يصدق لما فيها من إطلاق لكلمات بذيئة على الشخصية الواردة بالفيديو أو على المعد لا ترد على لسان أوضع الناس حتى من هؤلاء الذين تربوا بالشوارع

5-    (الرافضون) : وهي فئة رافضة كليا لهذا النوع من الفيديوات وترى فيها مضيعة للوقت مبررة ذلك بان الحاضر وما فيه من مشاكل وأزمات هو أجدى بأن يبحث ويناقش ويعرض بدلا من التحدث عن وقائع صارت جزء من الماضي ولا طائل من التحدث عنها .        

 

بالنسبة لفئة (المثقفون) فإنها مع الاسف قليلة وصدرت من أشخاص كما يبدوا هم باعمار متقدمة وقد قرأوا كثيرا بحياتهم وتثقفوا , أو على الأقل عاشوا الأحداث التي جائت بالفيديوات ولديهم معلومات كافية عنها تجعلهم يتحدثون عنها بموضوعية . ليس من الضروري أن يكون هؤلاء يحبون الشخصية التي يتحدث عنها الفيديو أو يكرهونها لكنهم على الأقل تحدثوا عنها بموضوعية قابلة للأخذ والرد . الفئة الثانية (المنحازون) وهم بأعداد كبيرة جدا , وهذا إن عبر عن شيء فإنما يعبر عن مدى الإنقسام الواسع بصفوف الشعب العراقي وكيف إنهم متكتلين ومتخندقين بكتل وخنادق متضادة تستطيع اي شرارة إن اشعلت بينهم تجعلهم يقتتلون لحد الموت . أما الفئة الثالثة (الجهلة) فهؤلاء كما يبدوا لي هم من الأجيال الحديثة التي لا تعرف شيئا عن ماضي بلدهم ولم تقرأ ولم تتثقف , بل حتى لا تريد أن تتثقف بل تعتمد بمصادر معلوماتها على ما يحشى في عقولهم من قبل الأخرين , وكثيرا ما يكون هذا الحشو مقصود ومجند لتحقيق اغراض معينة بعيدة عن مصلحة البلد ومصلحة الجموع التي تقطنه . وكانت أعداد هذه الفئة أيضا كبيرة نسبيا . الفئة الرابعة (الغير مؤدبون) فهم ليسوا كثر لكن العجيب والغريب فيهم هو الألفاظ التي يستعملونها وهي قبيحة وبذيئة جدا . لم تفلت من ألسنة هؤلاء لا الشخصيات التي ورد ذكرها بالفيديو ولا المعد إذا كان الفيديو لا يوافق أهوائهم . أما الفئة الخامسة (الرافضون) فهم قليلون نسبيا وأنا أبرر موقفهم بأنه ليس غير محاولة للهروب من اي مواجهة يمكن أن تسفر النقاب عن جهلهم وقلة ثقافتهم وضعف معارفهم .

 

لقد حرصت على أن إبقي على 99% بالمئة من تلك التعقيبات ولم أحذف إلا التعقيبات الغارقة في إستعمال الكلمات البذيئة لأن وجودها لا يتناسب لا مع الفيديو ولا مع الجو العام له . كما حرصت على الأغلب في وضع علامة الإعجاب على أغلب تلك التعقيبات سواء إن كانت تحب الشخصية الواردة بالفيديو أو تكرهه لكي أدلل على حياديتي وعدم إنحيازي , ولكي إشعر المعقب بنفس الوقت على الأقل بأني قد قرأت تعليقه ولم يفتني ولم أهمله . كما حرصت أيضا بالرد والإجابة على من يظهر في تعليقه اي سؤال أو إستفسار .

 

ما أريد أن اصل أليه في نهاية مقالي هذا هو السؤال الذي ورد في عنوانه وهو , إذا كان هذا هو الحال بأحداث ووقائع لم يمر على وقوعها أكثر من نصف قرن , ونحن المتحدثين عنها عشناها ومررنا بأحداثها وشاهدنا بعض وقائعها بعيوننا , فترى كيف هو الحال مع احداث تاريخية مر عليها المئات من السنين , بل وحتى الألاف من السنين ؟ وإذا كان تزوير التاريخ الحديث وحرف حقائقه عن موضعها الصحيح يحدث الأن وبهذا القدر وأمام عيوننا , فكم يا ترى زور التاريخ الأقدم وإلى اي قدر حرفت الحقائق التي يؤمن بها الملايين من الناس لحد الموت دونها ؟ وإذا كان التعامل مع أحداث الماضي القريب يجري الأن في القرن الواحد والعشرين بهذا القدر من الإستخفاف والإستهزاء وحتى التعامل البذيء الغير مؤدب , فكيف يا ترى تعاملت الأجيال القديمة على قلة ثقافتها مع الوقائع والأحداث بزمنها وكيف هي الصورة التي نقلتها إلينا ؟ لقد بدأت كل قناعاتي بتاريخنا المكتوب تهتز أمامي وبت على وشك أن اؤمن بشكل لا رجعة فيها بالمثل القائل

 

(التاريخ هو مجموعة من الأكاذيب لأحداث لم تحدث رواها أشخاص لم يعاصروها)

جورج سانتيانا

 

 


 

الدكتور وسام الشالجي

20 أب 2020