بقلم
وسام الشالجي
تمر هذه الأيام الذكرى الستون
لسقوط النظام الملكي بالعراق وقيام الجمهورية العراقية وهي حقا فرصة لاعادة النظر
في تقييم تلك الحركة ودراسة اسبابها من خلال ألقاء نظرة الى طبيعة العائلة المالكة وما كان يجري في كواليسها . أولا لابد وان
نعترف بأن لحركة 14 تموز مؤيدين كثيرين بناء على معطيات كانت تبدوا أكثر من
أيجابية في وقتها , وقد ظلت تلك المعطيات بمستوى هذه النظرة لفترة طويلة لكن
الواقع أثبت خطأ ذلك تماما . نعم , لا يمكن ابدا إنكار وجود حراك شعبي خفي كان
ممتعض من النظام الملكي ظل نار جمراته يتأجج تحت الرماد بصمت لسنوات طويلة , وظل
ذلك الحراك يتعاظم ويشتد دون أن يتخذ النظام الحاكم أي خطوات جدية لاحتوائه والخروج
بالبلاد من مسببات ذلك الامتعاض . كانت كل الدلائل تشير ومعظم المراقبين السياسيين
يتوقعون بان شيئا كبيرا لابد وان يقع لتصحيح ما ألت أليه الاوضاع بالبلاد . كما أن
اي متتبع منصف ومحايد لطبيعة الوضع الذي كان سائدا بالبلد عشية يوم الثورة ,
وقبلها ولفترة طويلة يمكن ان يرى بوضوح بأن الامير عبد الاله - ولي العهد بوقتها
لم يكن راغبا في أن يدع الامور تؤول الى سلطة حقيقية للملك الشاب الذي يفترض بانه
تولى الحكم رسميا قبلها بخمس سنوات , وأنه ظل مهيمنا على الملك وبالتالي كل النظام
وأن أي فرصة للتغيير كانت منعدمة بالمرة على ضوء طبيعة العلاقة بين الملك وخاله .
ربما ما كان لهذا الوضع ان يحدث بهذه الطريقة لو كانت والدة الملك فيصل الثاني
الملكة عالية على قيد الحياة , لكن رحيل تلك الملكة المبكر وفي سن حرجة جدا من عمر
الملك فيصل الثاني مكنت الوصي من أن ينفرد بالفتى ملك البلاد ويهيمن على شخصيته
وان يبقيه تحت سيطرته وبأمرة أصابع يديه وكأنه دمية تنتهي خيوطها بيد الخال الطامح
لان يبقي العراق تحت سيطرته مهما كان الحال . أن ما يثبت هذا حقيقة وواقعا انه كان
من النادر كليا أن يرى الملك فيصل الثاني لوحده في اي مكان داخل او خارج العراق ,
وحتى الصور التي يمكن يشاهد فيها الملك لوحده كانت قليلة جدا ولا يعود سبب غياب
الأمير عنها الا طبيعة اللقطة وموضع المصور في لحظة أخذ الصورة . كانت مرافقة
الخال لأبن أخته وتدخله بكل صغيرة وكبيرة تخص البلد تتجاوز كل الاعراف وحتى تثير
الاشمئزاز , وكان الملك كما يبدوا غير قادرا على وضع حد لهذا الحال بناء على طبيعة
الشخصية التي أصبح يمتلكها نتيجة لتربية خاله له . كان كل هذا يمكن ان يكون
مقبولا لو كان الامير عبد الأله شخصا محبوبا من قبل الناس , لكن لو أضفنا الى هذا
الواقع حقيقة دامغة هي ان تلك الشخصية كانت مكروهة لأبعد الحدود لادركنا عندها لماذا
وصل ثرمومتر الاوضاع الى درجة الغليان عشية الثورة , ولماذا كان الحراك الشعبي يتعاظم
قبلها بشكل مستتر وينذر بقرب إنفجار الوضع وحصول كارثة كبيرة ستؤدي الى وقوع أحداث
جسيمة كما حدث لاحقا .
ولكي نفهم لماذا حصلت ثورة 14
تموز 1958 ولماذا سقط النظام الملكي علينا أولا ان نعود الى الوراء ونربط الاشياء
ببعضها عل هذا ان يقودنا الى فهم حقيقي للأسباب التي ادت الى إندلاع ثورة عارمة لا
يمكن أن نستغفل قيامها حتى وإن كنا مؤيدين للنظام الملكي ونتمنى لو لم يسقط . مما
لا شك فيه أن الامير عبد الاله كان مكروها من قبل العراقيين بشدة , ولا يمكن انكار
هذا الحقيقة أبدا سواء ان كنا محبين للنظام الملكي او كارهين له . أن ما فعلته
الجماهير العراقية بجثة الامير بعد مقتله لم يكن غير تعبير واقعي عن مدى ذلك الكره
, ونحن مع اشمئزازنا من ذلك الحدث وأستنكارنا له لا يمكن ان نكون بمعزل عن مسبباته
وتبعاته مهما حاولنا ذلك . ولو قدر للملك الشاب فيصل الثاني ان يتربى تربية طبيعية
من دون تأثير او هيمنة من احد لكان من الممكن جدا ان لا تسير الأحداث وفق ما سارت
عليه ولربما التفت الجماهير حوله وساندت حكمه وبقي الى يومنا هذا , خصوصا وانه كان
يتطلع بطموح عالي لبناء البلد وجعله أمثولة أمام العالم في التقدم والتحضر . ان
معرفة جزئيات حقيقة كره العراقيين للامير عبد الإله يمكن أن يوصل الى فهم حقيقي لأسباب
وقوع ثورة 14 تموز بغض النظر عن نتائجها . يرجع كره الامير عبد الاله من قبل
العراقيين الى كرههم المتأصل للأنكليز , هذا الكره الذي ولد بعد إحتلال العراق من
قبل بريطانيا عام 1917 وظل يكبر ويتنامى حتى تحول الى جين وراثي راسخ في جسد
العراقي ظل ينتقل من جيل إلى جيل إلى يومنا هذا . ولو دققنا أكثر لوجدنا بأن
مفردات ولادة الكره لعبد الإله ترجع بالاساس الى نظرة الملك غازي الى هذا الرجل
الذي هو بالواقع ابن عمه وشقيق زوجته الملكة عالية . كان الملك غازي يكره الامير عبد
الإله لمعرفته بحبه الشديد لبريطانيا بينما كان الملك يطمح لتخليص العراق من نفوذ
وهيمنة هذه الدولة . ليس هذا فقط بل كان الملك على علم تام بأن الامير عبد الاله لم
يحب العراق في يوم من الايام ولم يشعر قط بالانتماء اليه , فهو حتى لم يرافق والده
وأسرته حين لجئت الى العراق لتحتمي بكنف الملك فيصل الاول بعد طردها من مملكة الحجاز
من قبل أل سعود عام 1926 بل سافر الى مصر لاكمال دراسته في كلية الملكة فكتوريا
بالاسكندرية وظل هناك حتى العام 1935 . وحين توفي الملك علي والد الامير عبد الاله
في بغداد عام 1935 غادر الامير عبد الاله مصر وسافر الى العراق واستقر هناك . كان
حب الأمير عبد الاله لبريطانيا وولائه لها ينبع من تعشمه بأن بريطانيا ستعيد أليه
ملكه الذي ضاع لأنه كان ولي عهد مملكة الحجاز والملك المنتظر لها . لذلك فهو لم
يتقدم قط بأي طلب لاكتساب الجنسية العراقية ظنا منه بأن هذا الامر ربما يعيق
تنصيبه ملكا على الحجاز لو تحققت عودتها أليه في يوم من الايام . وعلى العكس منه
كان أبن عمه الملك غازي يكره الانكليز جدا ويعتقد بقوة بأن بريطانيا كانت وراء
وفاة والده المفاجئة والغامضة في سويسرا بعد مغادرته بريطانيا مباشرة . كما كان
الملك غازي يؤيد سرا المانيا بقيادة زعيمها الجديد هتلر في صراعه مع بريطانيا الذي
أدى لاحقا الى نشوب الحرب العالمية الثانية . وكما هو معلوم فأن السياسة التي كان
يتبعها الملك غازي بالخفاء وتقريبه لضباط الجيش المناوئين لبريطانيا كانت تهدف الى
إنهاء سيطرة بريطانيا على البلد . كان الناس يؤيدون بقوة توجهات الملك الشاب غازي ويرون
في سياسته فرصة عظيمة للخلاص من الهيمنة البريطانية مما جعل من الملك شخصية محبوبة
لأبعد الحدود .
ان كل المؤشرات كانت تشير الى
ان بريطانيا كانت تخطط لازالة الملك غازي من سدة الحكم وانها تعد العدة لتغييره وتسليم
مقاليد الامور الى شخص موالي لها . وبعد أن قتل الملك بحادث غامض ترسخت هذه
الحقيقة أمام الناس , وحين تولى الامير عبد الاله منصب الوصاية على العرش بات
معلوما لدى الناس بأنه ليس غير الشخصية التي كانت تعد من قبل بريطانيا لحكم العراق
وإبقائه تحت الهيمنة البريطانية . ومما عزز من هذا الاعتقاد الشهادة المشكوك
بصحتها التي أدلت بها الملكة عالية أمام مجلس الامة وقولها بأنها سمعت من الملك
غازي في أحد الايام وهو يقول بانه لو حصل له أي طاريء مفاجيء يؤدي الى وفاته فانه
يرغب بتولي ابن عمه الامير عبد الإله الوصاية على العرش لحين بلوغ أبنه فيصل سن
الرشد . وبالفعل أعتمد مجلس الامة هذه الشهادة على عجل وجرى تعيين عبد الإله في 4
نيسان 1939 وصيا على العرش وقام وزير الداخلية ناجي شوكت بمنحه الجنسية العراقية
ليكون مؤهلا لتولي أعلى سلطة بالبلاد . أدى تولي هذه الشخصية لحكم البلد الى أصابة
العراقيين بخيبة أمل كبيرة أخرى بعد خيبتهم الكبرى بوفاة الملك غازي , ناهيك عن الشك
الكبير بوطنية الامير وأخلاصه للبلد الذي سيحكمه خصوصا وانه لم ينال صفة المواطنة
العراقية إلا باليوم الذي تولى فيه مقادير الامور . لم يدم الأمر طويلا لكي يكشف الوصي
عن تبعيته وولائه لبريطانيا فقد سارع بالتعاون مع نوري سعيد بتنفيذ كل ما يلزم على
العراق بعد أندلاع الحرب العالمية الثانية في 1 ايلول عام 1939 وعمل كل ما يقتضي لدعم
بريطانيا بكل الوسائل بهذه الحرب , ففي 5 ايلول قطع العراق العلاقات الدبلوماسية
مع ألمانيا ثم أعلن الحرب على المانيا وأعلن حالة الطواريء بالبلاد وفرض الاحكام
العرفية والرقابة على الصحف والمجلات وتم إقرار نظام الحصة التموينية . أدت هذه
المواقف الى تكتل الضباط المعارضين بالجيش وتشكيل حركة معارضة قوية أسفرت بعد
حوالي سنة ونصف الى قيام حركة رشيد عالي الكيلاني في شباط عام 1941 التي كان أول
عمل لها هو إقصاء الامير عبد الإله من الوصاية على العرش وتعيين الشريف شرف بدلا
منه . أستمرت الحركة حوالي ثلاثة أشهر وأنتهت في 2 مايس 1941 أثر هزيمة الجيش
العراقي أمام القوات البريطانية المتمركزة في قاعدة الحبانية وزحفها الى بغداد
لاعادة الوصي عبد الإله الى الحكم وكذلك نوري السعيد اللذان فرا من البلاد اثر
قيام هذه الحركة . كان من نتائج حركة رشيد عالي الكيلاني التي زادت في كره الناس
للامير عبد الاله هو إعدام العقيد صلاح الدين الصباغ ورفاقه العقداء الذي أوصل تذمر
الناس من الوصي الى القمة .
أستمر الوصي عبد الاله بتنفيذ
السياسات الموالية والداعمة لبريطانيا والتصدي لكل الأحزاب والحركات السياسية التي
تكونت بالبلاد خلال عقدي الثلاثينات والاربعينات والتي كان معظمها مناوئا
لبريطانيا مثل الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الوطني
الديمقراطي وغيرها . كانت تلك الحركات تزرع وتغذي بعقول الناس نزعة الكره لكل ما
يمت بصلة لبريطانيا وغيرها من الدول الإستعمارية وكانت تصور للناس بإن النظام الحاكم
ليس غير مطية طيعة بأيدي تلك الدول مما فاقم من تذمر الناس من الوصي وتنامي مشاعر
الكره نحوه يوما بعد يوم . أستمرت الأوضاع السياسية بالتازم , خصوصا بعد موجة
الإعدامات إثر وثبة
كانون في عام 1948 بعد التوقيع على معاهدة بورتسموث التي طالت عسكريين ومدنيين وطنيين وكذلك إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي عام 1949 . كل ما كان يجري بالبلد كان
يلقى على عاتق الوصي وعلى نوري السعيد الذي ظل يتناوب على منصب رئيس الوزراء المرة
تلو الاخرى . وأزاء هذا الحال لم يكن أمام الناس غير عقد الامل على تولي الملك الجديد للسلطة بالبلاد بعد
بلوغه سن الرشد , وصاروا ينتظرون بلهفة وترقب لأن يتم تجريد الأمير عبد الإله من كل
سلطاته لصالح الملك الجديد . غير أن كل الامال خابت بعد تتويج الملك فيصل الثاني
حيث أعلن بان الامير عبد الإله سيصبح ولي العهد البلاد الامر الذي كان يعني بقائه
بسدة الحكم , بل بقائه يسيطر على هذا الحكم كليا كما أثبتت الوقائع والاحداث فيما
بعد .
لم يفهم الوصي عبد الاله منذ
قدومه للعراق عام 1935 وحتى وفاته عام 1958 طبيعة العراقيين ولا كيفية التعامل
معهم بصورة صحيحة . ففي الوقت الذي كان يجب عليه ان يكسب حبهم ورضاهم ظل باستمرار
يمارس سياسات تؤدي الى نفورهم منه وتعاظم مشاعر الكره تجاهه . طبعا المقصود بهذا
الكلام هو غالبية ابناء الشعب , وبالذات الطبقة الفقيرة والكادحين الذين كانوا
يشكلون غالبية الشعب وليس الطبقة الضيقة من السياسيين واصحاب المصالح والمنتفعين الذين
ظلوا ملتفين حول الامير ويمارسون معه مختلف اساليب التملق والتزلف الكاذبة
ويتقربون منه للوصول الى مأربهم وتحقيق مطامحهم . ومن هؤلاء القلة ظن عبد الاله
بانه قريب من الناس وان الغالبية راضية عنه وعن سياساته . كما ان الامير لم يفطن
قط الى الاسباب الحقيقة التي كانت وراء حركة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة
عام 1941 وظن أن الامر لا يتعدى إنخراط البعض في لعبة السياسة العالمية والميل
لهذا الطرف او ذاك من الاقطاب المتحكمة بالعالم , في حين أن الامر لم يكن حقيقة
كذلك بل كان يتعلق بشكل خاص بالعراق والاستعمار البريطاني وان التقدم بأتجاه دول
المحور كان خيارا اضطر ثوار تلك الحركة الى اللجوء اليه لضمان نجاح حركتهم الساعية
للتخلص من الهيمنة والنفوذ البريطاني . وحين اقدم الامير على اعدام قادة الحركة
وتعليق جثة العقيد صلاح الدين الصباغ على بوابة وزارة الدفاع اوصل بفعله هذا مشاعر
الغضب والحقد عليه الى القمة في نفوس الناس الذين لم ينسوا له هذا الحدث أبدا
وحاولوا بعد حوالي ثلاثة عشر عاما ان يعلقوا جثة عبد الاله في نفس المكان إنتقاما
من ذلك الفعل.
الشيء الثاني الذي لم يفهمه
الوصي عبد الاله هو ان العراقيين بطبيعة تكوينهم التاريخي والنفسي لا تأخذهم
تفاصيل الامور الدقيقة عند النظر الى اي امر بقدر نظرتهم الى نتائجه النهائية .
فمثلا في موضوعة المعاهدات التي كانت تعقد مع بريطانيا , وبالذات معاهدة بورتسموث
ألتي أنتفض الناس بسببها على الحكم الملكي
. إن الناس لم يفكروا بماذا يمكن ان تحققه تلك المعاهدة لهم وللبلد من فوائد بعد
عشر او عشرين سنة بقدر ما كانوا يرون فيها المزيد من الخضوع لبريطانيا
الاستعمارية والمزيد من هيمنتها على مقدرات البلد . ان العراقيين تغلب عليهم هذه
الصفة في جميع الاحوال , فالجماهير حين تتفاعل مع اي واقع بالبلد لاتنظر تفصيليا
الى مفرداته ولاتفكر بعواقبه المستقبلية بقدر ما تفكر بالفوائد او المساويء الانية
التي تصيب الفرد او المجتمع بسببها , لذلك وجدنا العراق كثيرا ما يسير في دروب
تنتهي بمهالك كارثية بالأخر بينما كانت قد حققت مكاسب انية وسريعة في بدايتها . ان
عبد الاله لم يتعامل مع هذا الواقع بحكمة ودراية فظل يعمل ويسير بعكس ما يريده
الناس وظل يظن بأنه يفعل الصحيح بينما كان يجعل جبل الكره تجاهه يعلوا ويتصاعد الى
ان وقعت الكارثة .
نفس الامر تكرر في موضوع
الاقطاع , ففيما يخص هذا الامر لم يفكر الناس قط بان الاقطاع تأسس بالعراق قبل إنبثاق
النظام الملكي بحوالي سبعين سنة حين طلبت الدولة العثمانية من رؤساء العشائر تسجيل
الاراضي التي يستزرعونها بدوائر الطابو المستحدثة بالدولة فراح هؤلاء وسجلوا كل
الأراضي باسمائهم الشخصية . ولتحقيق المنافع والفوائد الكبيرة من تلك الاراضي أخذ
رؤساء العشائر يجبرون أبناء عشائرهم للعمل في إستزراع وري تلك الأراضي والقيام
بأعمال مضنية بينما لم يكن يمنحونهم أكثر من طعامهم وتوفير السكن لهم وتحول الأمر
شيئا فشيئا إلى شكل من أشكال الإستعباد . كان هذا هو الوضع السائد حين تاسست
الدولة العراقية عام 1921 وظل هو النافذ حتى سقوط النظام الملكي عام 1958 . لم يكن
أمام الناس من أجل الخلاص من سلطة رؤساء عشائرهم الاقطاعيين سوى الهرب من مناطقهم والنزوح
الى المدن الكبيرة والسكن بصورة غير شرعية على اطرافها . وحين إستلم الامير عبد
الاله الوصاية على العرش وجد الزراعة مزدهرة وهي تدر أرباحا وفوائد كبيرة على البلد
من تصدير كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية الفائضة الى الخارج . وبينما كان يفترض
بولي الامر ان يصطف الى جانب المظلومين ويرفع الحيف عنهم وجدنا الوصي يطور علاقاته
برؤساء العشائر الاقطاعيين , وحتى انه تزوج بنت احد هؤلاء . لم يفكر الأمير او
يحاول قط ان يغير ذلك الوضع , او على الاقل ان يفهم سبب نزوح الفلاحين من مناطقهم
وتشكيلهم لأحزمة سكن غير حضارية من الصرائف البالية حول المدن الكبرى , وبالذات
حول مدينة بغداد . ان عدم فهم هذا الواقع كان يؤشر بشكل حاسم على ان الامير لم يكن
قريبا من الناس ولم يحاول قط ان يفهم مشاكلهم وان يساهم بحلها . لم يكن أمام الناس
سوى ما يروه جهرة فساد الشعور العام بينهم بان الدولة وعلى رأسها حاكمها الوصي
تدعم الاقطاع وتقويه وتزيد من سلطته ونفوذه على حساب الفلاحين المظلومين
والمستعبدين من قبلهم . وحين وقعت الواقعة وتوفرت فرصة التغيير لم ينتقم الناس من
الاقطاعيين انفسهم بل صبوا جام غضبهم وسخطهم على حكام البلد واعتبروهم هم من كانوا
وراء الاقطاع وهم من كانوا يدعمون وجوده واستمراره .
أن كل ما تقدم يبين ان الأمير
عبد الاله كان في واد والشعب العراقي في واد أخر . لقد كان من الواضح جدا بانه انه
لم يكن يصلح لحكم العراق وان هذا البلد كان غريبا عليه كما كان أهله غرباء عنه .
وبالرغم من هذا فأن الامير كان كما يبدو ناوي نية مبيتة في قرارة صدره بان
يستبدل عرش الحجاز الذي ضاع منه بعرش العراق الموجود على قاب قوسين أو أدنى من يديه
, لذلك فقد أتبع كل الوسائل التي تضمن له هذا الامل من خلال تربيته لابن أخته
الملك فيصل الثاني الملك الحقيقي للبلاد .
كانت خطبة الملك فيصل الثاني هي النذير
الذي رن في إذن الامير وجعل شبح فقدانه للسلطة والهيمنة يلوح بالافق أمامه . لم
يكن صعبا على الامير ان يدرك بان عصر غياب الام الذي اتاح له الانفراد بالفتى
والسيطرة الكلية عليه أصبح على وشك الأنتهاء وسيحل شخص جديد على الاسرة لن يرضى
بالتأكيد بإستمرار هذا النوع من السيطرة . كما أن الدستور العراقي يعتبر الابن
البكر للملك هو الذي يستحق منصب ولاية العهد وهو الذي يجب ان يكون الملك المقبل
للبلاد . لهذا اصبح الامير عبد الاله واثقا ايضا بان بقائه في منصب ولاية العهد لن
يدوم وسيتحول تلقائيا هذا المنصب الى أبن الملك بمجرد قدومه للحياة . لهذه الاسباب
اصبح الامير عبد الاله كثيرا ما يشاهد مهموما غارقا بالتفكير في الاشهر الاخيرة من
حياته بعد الاعلان عن خطبة الملك .
هناك الكثير من المقربين ممن
يدعون بان الامير الخال كان يحب ابن أخته الملك كثيرا وأنه رباه كولده بالضبط ,
وحتى إن البعض أسرفوا في هذا الادعاء من خلال وصفهم للامير بأنه لم ينجب متعمدا
لكي يتفرغ لرعاية إبن أخته الفتى اليتيم . ان هذه الادعاءات هي بالتأكيد بعيدة عن
الصحة والدليل على هذا هو ما ذكره الملك حسين في كتاب مذكراته (مهنتي كملك) . لقد
قال الملك حسين بانه شاهد بعينه ولمرات عديدة الامير عبد الاله يضرب الملك فيصل
الثاني ويكلمه بقسوة وخشونة , وحتى انه كان كثيرا ما يشتمه ويسبه . بالتأكيد بان
ليس للملك حسين أي مصلحة في قول هذا الكلام بعد أكثر من ثلاثين عاما على رحيل
هؤلاء , وان ما ذكره لابد وان يكون حقيقيا او على الاقل قريبا من الواقع .
بالاضافة الى هذا فأن الدلائل كانت تشير بشكل أو بأخر الى إن الامير عبد الاله لم
ينجب لأنه كان كما يبدو عقيما , وان فكرة كونه حرم نفسه من الخلفة لكي يتفرغ
لتربية ورعاية ابن اخته عارية عن الصحة لان اي من زوجاته لم تذكر مثل هذا الأمر
ابدا . الدليل الاخر على هذا هو ان الامير تزوج عام 1935 قبل ان يصبح وصيا على عرش
العراق من المصرية "ملك حفظي" ثم طلقها بعد حوالي عام دون أن ينجب منها
. وعملا بمبدأ "إذا مت ظمأنا فلا نزل القطر" أصبح الامير عبد الاله
مستعدا تماما للتفريط بالحكم الملكي كله في العراق إذا كانت الاحوال تشير الى
إحتمال فقدانه للسيطرة على هذا الحكم بأي شكل من الاشكال . وحين حدثت الثورة وتم
الهجوم على قصر الرحاب طلب الملك فيصل الثاني من العقيد طه البامرني أمر فوج الحرس
الملكي ان يوجزه بطبيعة الموقف وان يخبره بمدى إستعداد سرية الحرس الملكي المرابضة
بالقصر لمقاومة المهاجمين . وبالفعل أخبر العقيد طه الملك بان ما معه من جنود
وسلاح وعتاد قادرين بسهولة على دحر الهجوم والسيطرة على الاوضاع . وبدلا من أن
يتلقى العقيد طه الامر من الملك بالمباشرة بالقضاء على القوة البسيطة المهاجمة
وجدنا الامير عبد الاله يحسم الامور ويقول له (إذا ما يريدونا فأحنا مستعدين
للتسليم بشرط ان يسمحوا لنا بمغادرة العراق) . كان هذا الموقف غريبا وحتى أنه اثار
استغراب أمر فوج الحرس الملكي الذي لم يكن ينتظر مثل هذا الموقف ابدا , ففي حين
قاوم الامير عبد الاله بشراسة وقوة حركة رشيد عالي الكيلاني التي ارادت إقصائه من
الحكم قبل 17 سنة , هاهو الان يستسلم بسرعة وسهولة . ليس من الصعب على اي مراقب ان
يستنتج ان السر في كل هذا هو أن الامير قاوم حركة بقوة 1941 لان الحكم كان بيديه كليا , إما الان
فالحكم ليس بيديه كليا وهو مهدد بالاقصاء تماما بعد أيام او شهور . وعملا بالمبدأ
الذي اشرنا اليه أصدر الامير القرار بألاستعداد لإنهاء الحكم الملكي بالعراق وسط
ذهول وتعجب الملك وكأن هذا الحكم هو وقف أو أرث ورثه عن ابيه . لم يكن بمقدور
الملك ان يعترض على هذا القرار وهو الذي تربى على أن كل قرار يتخذه خاله لابد وان
يكون هو الصحيح وهو حتما الأفصل له ولمصلحته . لهذا وجدناه يبقى صامتا وغير معترضا
مما جعل الحكم الملكي يضيع بهذه السهولة من العراق وينتهي نتيجة لقرار شخص هو في
كل الاحوال طاريء على هذا الحكم .
الشيء الاخر الذي لم يفهمه عبد
الاله ولم يدركه ويحسبه جيدا والذي يعود الى ذات الامر الذي ذكرناه اعلاه وهو أن
الأمير ظن بان الثائرين سيستجيبون حتما لما طرحه ويفرحون بذلك وانهم سيتركونه والملك
وبقية افراد اسرته يغادرون العراق بسهولة , وربما حتى ظن بان التحيات العسكرية
والوداع الرسمي اللائق سيقام لهم كما حصل في مصر قبل ذلك بست سنوات . ان هذا دليل
أخر على أن الامير عبد الاله لم يفهم قط طبيعة العراقيين ولم يدرك الفوارق الموجودة
بينهم وبين الشعب المصري مما يعني بانه لم يقرأ قط تاريخ العراق الدموي على مدى
الاف من السنين ولم يعرف ماذا يحصل لحكام العراق حين يقعوا بأيدي محكوميهم . كما
أن الامير خدع بالتاكيد مرة أخرى من قبل بريطانيا التي أفهمته بشكل أو باخر بأن من
مصلحة القائمين على الحكم أن يستسلموا ويستجيبوا لاي حراك ثوري يمكن ان يحدث
بالبلاد وان لاخوف على العائلة المالكة أبدا وانه لن يحدث باي حال من الأحوال ما
هو اسوأ مما حدث لملك مصر وعائلته عام 1952 . وسواء ان كان البريطانيين مخلصين
بهذه النصيحة أو مغرضين فأن الامير وثق بمن أخبره هذه الحقيقة كما يبدوا ولم
يستعمل عقله لتدارك الاوضاع وتلافي ما يمكن أن يحدث ونسى تماما بأن بريطانيا قد خانت
والده وجده قبله فجعل نفسه واسرته كلها ضحية لهذه الثقة العمياء .
أن ما جاء اعلاه ليس غير إلقاء
نظرة جديدة الى طبيعة الأحوال التي قادت الى اسقاط النظام الملكي بالعراق , وبنفس
الوقت تدارس تلك الاحوال من خلال النظر اليها مما كان يدور داخل الاسرة المالكة .
وكخلاصة لما تقدم لابد وان ندرك بأن ألامير عبد الاله , الوصي أولا وولي العهد
ثانيا كان سبب رئيسي في زوال هذا الحكم من العراق وان وجوده كان من سوء حظ ذلك النظام
اولا واخيرا . كان من الافضل للامير وللحكم الملكي أن يترك السلطة وان يتوارى عن الانظار بعد
تولي الملك فيصل الثاني الحكم , وأن يتركه يحكم بلده وشعبه بالشكل الذي يرتايه لكنه
لم يفعل ذلك وبقى مسيطرا على الامور بالرغم من وجود الملك . كما كان يجب على الملك
وعلى رجال السياسة الكبار بالبلاد أن يعدوا العدة لتولي الملك لكافة سلطاته وان
يحثوه على إتخاذ الاجراءات المناسبة لابعاد خاله عن السلطة من أجل الحفاظ على ملكه
لكنه للاسف لم يفعل ذلك . ربما حاول نوري السعيد ان يقتع الامير عبد الاله بان
يترك الملك الجديد يمارس سلطاته كما يرتأي لكن الامير لم يستجب له وظل يريد من كل
صغيرة وكبيرة بالبلاد ان تعود له اولا وأخرا . وخيرا علينا أن نقتنع بأن بقاء الامير عبد الاله
بالحكم لفترة طويلة وسياساته الخاطئة ونواياه كانت هي السبب الاساسي في ضياع الحكم
الملكي من العراق وإستشهاده وإستشهاد الملك وبقية أفراد الاسرة المالكة , وهي ايضا
السبب بما حل بجثمانه بعد إستشهاده .
وسام الشالجي
20 تموز (يوليو) 2018