اخر المواضيع في المدونة

الأربعاء، 28 أغسطس 2013

تدمير التراث الثقافي العربي , هل هو مؤامرة ؟ (4)

(4) 

5- فترة ما بعد الاحتلال الاجنبي (2003 – حتى الان) :
بعد احتلال بغداد وسقوط نظام الحكم في 9 نيسان 2003 تم تنصيب حاكم امريكي تحت اسم "المدير التنفيذي لسلطة الائتلاف" وزود بصلاحية حكم البلاد من خلال اصدار المراسيم التي تقتضيها المرحلة . كما جرى لاحقا تأسيس مجلس الحكم الذي يضم شخصيات من المعارضة العراقية التي كانت تعيش في الخارج قبل سقوط النظام . لم يكن لهذا المجلس سلطة حقيقية وانما كان مجرد صورة وواجهة رمزية وضعت للاشارة بان شخصيات عراقية متنفذة هي شريكة في حكم البلاد . استمر حكم المدير التنفيذي لسلطة الائتلاف للعراق حوالي عام كامل , وقد غادر العراق في اواخر شهر حزيران من عام 2004 بعد ان نصب حكومة مؤقتة تضم ممثلين عن كافة القوى السياسية بالبلاد تنحصر مهمتها بالاعداد لانتخابات تجري لاحقا لاختيار حكومة مؤقتة ثانية تكلف باعداد دستور دائم للبلاد . استمرت سلطة الحكومة المؤقتة الاولى هذه حوالي عام كامل وقد اجرت بالفعل اول انتخابات سياسية بالعراق بعد سقوط النظام السابق ادت الى تشكيل حكومة مؤقتة جديدة بزعامة التحاف الوطني الذي يضم في هيكليته الاحزاب والقوى السياسية الشيعية بصورة رئيسية . قامت هذه الحكومة باعداد دستور دائمي طرحته على الاستفتاء العام وجرى اعتماده كطريق لحكم العراق في هذه المرحلة , اعقبها القيام بانتخابات جديدة اسفرت للمرة الثانية عن فوز التحالف الوطني . تم عقب هذه الانتخابات تشكيل حكومة ائتلافية دائمية هذه المرة بزعامة التحالف الوطني بقيادة حزب الدعوة ضمت ايضا ممثلين عن معظم الحركات السياسية في البلاد . وبعد اربع سنوات جرت النتخابات اخرى ادت الى فوز القائمة العراقية بزعامة حركة التوافق العراقية , غير ان اعادة الاصطفاف للحركات الشيعية جعل من غير الممكن على هذه القائمة تشكيل حكومة جديدة مما اتاح الفرصة للتحالف الوطني مرة اخرى لتشكيل حكومة اخرى بزعامة حزب الدعوة .

وفيما يتعلق بالوضع السياسي , لم يشهد العراق اي نوع من الاستقرار خلال هذه المرحلة , فقد شاعت فيه الفوضى وساد الانفلات الامني والاخفاق في كل المجالات وتصاعدت اعمال المقاومة ضد المحتل والتي تحولت تدريجيا الى اعمال مسلحة ضد الحكومات التي تتالت على حكم البلاد . كما انتشرت ظواهر الاختلاس ونهب وهدر المال العام والمحسوبية والوساطة وتقلد الفاشلين للمناصب والمسؤوليات الكبرى في الدولة . من جانب اخر فقد اصطفت اغلب الحركات السياسية في البلاد اصطفافا طائفيا وعرقيا مما زاد في روح الفرقة والتشتت والتي ادت الى اندلاع الحرب الاهلية الطائفية بين الاعوام 2006 – 2008 . كما قامت القوى الكردية بترسيخ وجودها ونفوذها المستقل عن الحكومة المركزية في كل شيء حتى اصبح اقليم كردستان واقعيا وفعليا دولة مستقلة ذات سيادة ومؤسسات جعلت منه قوة تفوق حتى قوة الحكومة المركزية في الكثير من المجالات . وبصورة عامة تحول العراق بعد عشر سنوات من سقوط النظام السابق الى دولة غير مستقرة وفاشلة تحتل المراتب الاخيرة بين دول العالم في كل شيء وليس لها اي تأثير محسوس او نفوذ على المستوى الاقليمي او الدولي .

وفيما يتعلق بموضوع هذه الدراسة المرتبط بتدمير التراث الثقافي سنقوم باستعراض الشؤون التي تتعلق بهذا التراث واحدة واحدة لنرى ماذا حصل لها في غضون فترة ما بعد الاحتلال الاجنبي . فعلى المستوى التربوي والتعليمي نجد بان الولايات المتحدة كانت تخطط في مرحلة ما بعد الحرب في العراق إلى إحلال نظام تعليمي في هذا البلد خال من أي اثر للخطاب الوطني العراقي , فقد أصدرت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية قبل اندلاع الحرب اعلان لاستدراج عروض من اجل تجديد النظام التعليمي العراقي . وأشارت الوكالة في اعلانها إلى ان النظام التعليمي لمرحلة ما بعد الحرب في العراق ينبغي ان يضع الأسس لممارسات ومواقف ديمقراطية سواء لدى الأطفال أو لدى الأساتذة . كما ان المؤسسات المتخصصة مدعوة إلى الأخذ بعين الاعتبار في برامجها التوازن الإثني الموجود في البلد . وكان بعض المسؤولين الاميركيين يرون بان التحدي كان هائل , فالكتب المدرسية العراقية الحالية تزخر بممارسات عبادة الشخصية لكثرة ما فيها من مديح للرئيس العراقي السابق صدام حسين , كما انها مليئة بالدعوات إلى استخدام القوة للدفاع عن العراق في وجه الأعداء . واعتبر الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان الذي يتخذ من باريس مقرا له انه يجب ان يتم تكييف الأطفال في العراق عبر التأثير مباشرة على أذهانهم منذ الصغر . بيد أن مراقبين محايدين كانوا يشككون في نية الولايات المتحدة بتحسين النظام التعليمي العراقي ، ويؤكدون بأنها لم تكن ترغب في غير إزالة كل ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي التي يزخر بها المنهاج العراقي . ويرى هؤلاء المراقبون بان ما كان ينويه الاحتلال الأميركي من هذه الممارسة هو وضع المناهج التعليمية بالطريقة التي يرتئيها وبما يسمح بان يكون مثالا يمكن لدول المنطقة ان تحذى حذوه .

وحتى لو جزمنا بان قوات الاحتلال كانت مخلصة في نيتها لاصلاح النظام التعليمي في العراق فأن ما حصل فعلا كان مختلفا تماما , فقد أدى التسيب والفلتان في النظام التعليمي الى تدمير المؤسسات التعليمية وحرمان مئات الآلاف من الطلاب من متابعة دراستهم نتيجة لانهيار الوضع الأمني وسيطرة الميليشيات الطائفية المنفلتة على كل شيء في البلاد ، والذي كان اخطر ما فيه التدخل في تفاصيل الحياة التربوية .  لذلك فان من اهم الجرائم المنظمة التي هي من نواتج الاحتلال كانت تجهيل المواطن العراقي واعادة عقليته عقودا وقرونا الى الوراء . وقد اصبح يتردد الان بأن جيلاً كاملاً من العراقيين نشأ محروماً من حقه في التعليم السليم بعد حصول الاحتلال ، وحتى من استطاع أن يلتحق بمدرسة فأنه لم ينل قسطه من العملية التربوية السليمة كما ينبغي . وقد شدد تقرير للأمم المتحدة في وقتها بأنه من الضروري جداً على الاقل الحفاظ على مستوى تعليم الأطفال العراقيين رغم ضعفه من أجل مساعدة الأطفال في تخطّي هذه الأزمة . وفي مقارنة بين ما كانت عليه العملية التربوية في ظل النظام الوطني ، وبين ما أصبحت عليه بعد واثناء الاحتلال بين التقرير بان فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي شهدت خطوات عملاقة في التعليم وضعت العراق في مستويات متقدمة جداً بالنسبة لدول المنطقة , وان الدستور العراقي ينص على إلزامية التعليم في العراق . وبين التقرير ايضا بان حملة التعليم الإلزامي ومحو الأمية في السبعينات كانت فعالة جداً وغيرت الوضع الذي كان سائدا في العقود الثلاثة التي سبقتها , خصوصاً في تعليم البنات . أما في مرحلة الاحتلال ، فيبين التقرير بأن هناك إرهاب حقيقي موجود في كل الممارسات التعليمية وخصوصا في الامتحانات ، وإن هذا ليس الا نتيجة طبيعية للانحطاط الاجتماعي الكبير الذي حدث في العراق مما يؤشر الانهيار الكامل لنظام التعليم في البلاد . كما ان مجموع ايام حضور الطلاب في مدارسهم لا يزيد عن فترة ثلاثة أشهر من السنة الدراسية التي تستمر لمدة سبعة أشهر . أما الغش في الامتحانات فقد اصبح سائدا بشكل خطير وان للميليشيات دور كبير في التدخل والترويج له وفرضه على إدارات المدارس .

لقد ادى حال الوضع التعليمي بهذا الشكل الى تفشي الامية بشكل خطير في عموم المجتمع العراقي , فبعد أن قطع العراق خطوات واسعة بهذا المجال وحقق إنجازاتٍ كبيرةً في القضاء على الأُمية والتي بدأت حملاته في مكافحتها منذ عقد السبعينيات حتى اعلانه بالقضاء عليها نهائيا عام 1991 , فانها عادت وانتشرت من جديد بعد وقوع الاحتلال عام 2003 . لقد ادى تراجع الوضع التعليمي وبخطوات كبيرة إلى الوراء بعد الاحتلال الاجنبي الى ان ترتفع نسبة الأُمية في العراق بدرجات ملحوظة وتكون مدعاة للخطر ، حتى اصبح الحال يهدد بان تكون شريحة كبيرة من أبناء العراق في المستقبل القريب هم من الأُميين . وقد عبر مسؤول كبير في وزارة التربية عن قلقه من تفشي الأُمية في البلاد ، وقال إن العراق يعاني من ازدياد نسبة الأُمية بدرجة مقلقة جدًّا ، وإن أعداد الأميين في العراق بلغت بين عامي 2008 – 2009 حوالي 5 ملايين فرد ، أكثر من 60% إلى 65% منهم من النساء ، وأن تقديرات العام 2010 تفيد أن هذا العدد ازداد كثيرا وتجاوز سبعة ملايين فرد . وبالرغم من وجود محاولات من قبل الوزارة لإنشاء مراكز لمحو الأُميَّة في العراق ، الا انها كانت صغيرة وقليلة ولم تستوعب الا عددا قليلاً جدا لا يتجاوز نحو خمسين ألف أُمِي سنويّا ، ما يعني أن البلاد ستحتاج لعشرات السنين لمعالجة المشكلة مع الأعداد المتزايدة من الأميين .

ليس هذا فقط وانما استجدت ظاهرة جديدة وخطيرة في البلاد في نفس الوقت , الا وهي ظاهرة انتشار الشهادات المزورة . ففي مرحلة ما بعد الاحتلال انتشرت في العراق الكثير من المكاتب الحرفية التي تقوم بتزوير الشهادات والوثائق مما دفع الكثير من الاشخاص الى الاستفادة منها لاستصدار وثائق وشهادات جامعية مزورة لاستغلالها لغرض التعيين في مؤسسات الدولة . من ناحية اخرى , فقد عادت الى القطر بعد الاحتلال اعدادا غفيرة من المبعدين , خصوصا من ابعدوا في حملة تهجير ذوي التبعية الايرانية وكذلك ممن كانوا يعملون ضمن الحركات المعارضة العراقية التي كانت في الخارج والتي كان جلها يقطن في كل من ايران وسوريا . وبعد عودة هؤلاء ادعى الكثير منهم بانه حاصلين على شهادات جامعية اولية او عليا وقدموا وثائق مزورة لكي يسهل عليهم عملية الانخراط في اجهزة الدولة وتبوأ المناصب العليا فيها . كما ان بعضهم ادعى الحصول على شهادات عليا من مرجعيات وحوزات دينية وحتى مؤسسات غير تعليمية . ولدى غياب المراقبة والاجهزة المختصة أخذت هذه الوثائق مسارها واضطلع اصحابها بمهمات ومسؤوليات كبيرة وتقلدوا مناصب عليا وصلت الى مرتبة وزير او وكيل وزارة وصولا الى الدرجات الوظيفية البسيطة . وبعد عدة سنوات ونتيجة لتفشي الفشل والتقصير والاخفاق في اداء اجهزة الدولة تمت العودة الى الشهادات التي ادعى هؤلاء بحصولهم عليها , وبعد التقصي والتحقيق تبين بان ما لا يقل عن 95% منها شهادات مزورة وغير حقيقية .

ان الآثار والتداعيات السلبية التي ترتبت على احتلال العراق لم تقتصر على المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية فحسب ، بل شملت الحياة العلمية والفكرية في هذا البلد . فبعد الاحتلال دخلت على المجتمع العراقي ظاهرة جديدة تمثلت في استهداف الأساتذة والعلماء والمفكرين وكل شيء يقع ضمن حملة تدمير القدرات العلمية للبلد . ان التعمق في هذه الظاهرة يقودنا إلى البحث عن أسباب استهداف العراق أصلاً ، ليس من قبل قوات التحالف وحدها ، وإنما من قبل كل الدول التي دعمت غزو العراق والدول التي استفادت من غزوه . فمن ناحية المحتل كان من الواضح بانه كان يعمل علنا على تقويض البنية العلمية العراقية , فعلى سبيل المثل فانه قام بتحويل بعض ابنية الجامعات والكليات والمدارس الى ثكنات عسكرية بعد ان تم تدمير مختبراتها وورشها وامكانياتها . وضمن نفس الحملة فقد قامت قوات الاحتلال باستهداف بعض الاساتذة من خلال عمليات الدهم والاقتحام التي تقوم بها والتي راح ضحيتها بعض هؤلاء من دون ذنب . من ناحية اخرى , وبعد انتشار العمليات العسكرية التي يفترض بانها انبثقت لمقاومة المحتل انتشرت عمليات قتل واغتيال رهيبة استهدفت العلماء العراقيين من اطباء ومهندسين واساتذة جامعات ومدرسين ومفكرين . لم يكن القصد مما يجري ضمن هذه الحملة مفهوما , اذ ما علاقة هؤلاء بعمليات المقاومة , الا ان جهات معينة كانت تقصد خلط الحابل بالنابل وتصفية كل من يراد تصفيته حتى وان كان هذا من خلال نسب تصفيتهم الى عمليات المقاومة . جرى ضمن هذه الحملة قتل المئات من الشخصيات العلمية والفكرية والكوادر المهنية العالية التي كان البلد يرتكز عليها بشكل رئيسي . ان اي نظرة دقيقة لما كان يجري تقود الى الاستنتاج بان ذلك كان فيه الكثير من تصفية الحسابات اولا , ويهدف ثانيا الى افراغ البلد من اي قاعدة علمية واحلال بدلهم المزورين والدجالين واللصوص . وبعد اشتعال الحرب الاهلية الطائفية بين عامي 2006 – 2008 اصبحت الطبقة المثقفة والشرائح العلمية هدفا للجميع حتى بات من الواضح بانهم اصبحوا عناصر غير مرغوب ببقائها في البلد . ونتيجة لعمليات القتل والتهجير فقد غادرت العراق اعداد غفيرة منهم , حتى وان كانوا لم يستهدفوا فعليا بل لانهم شعروا بان الدور لابد وان يأتيهم ضمن ما يجري بالبلد . وقد استقر معظم هؤلاء في دول الجوار مثل سوريا والاردن ومصر وبعض دول الخليج . وبعد ان طالت الازمة ولم تستقر احوال البلد فان الكثير من هؤلاء اختاروا اللجوء في الدول الاوربية واميركا من خلال برنامج الامم المتحدة لاعادة توطين اللاجئين . ولو استعرضنا احوال هؤلاء والظروف التي عاشوا بها سواء في دول الجوار او في دول اللجوء والصعوبات الجمة التي مروا بها لوجدنا بان كل ما جرى لهم لم يكن في الواقع غير حملة منظمة تهدف لابادتهم وتجويعهم وأخضاعهم الى ظروف قهر قاسية تجعل من المستحيل عليهم ان يعاودوا نشاطاتهم العلمية التي دأبوا على ممارستها قبل وقوع الاحتلال .

اما في مجال الاعلام , فقد عاد الإعلام العراقي بعد احتلال البلد عام 2003 إلى درجة الصفر مثله مثل كل مؤسسات ونشاطات الدولة الاخرى . فمن الخطوات الاولى التي اتخذتها الادارة التنفيذية لسلطة الاحتلال هي حل وزارة الإعلام العراقية التي كانت تمثل جزءا من المشهد السياسي العراقي لفترة ما قبل الحرب وتم تسريح معظم موظفيها على اعتبار ان هذه الوزارة لا تختلف في مهامها وتركيبتها عن وزارة الدفاع التي حلت هي الاخرى . لقد جرى التخطيط الى تحويل الاعلام في مرحلة ما بعد الاحتلال الى نشاط تحرري بعد ان كان نشاط سيادي سلطوي في ظل النظام السابق . وعلى هذا الاساس فقد سمح بصدور مئات الصحف الجديدة وتأسيس عدد لا يستهان به من المحطات الفضائيات والإذاعية التي تتقاسمها عشرات الأحزاب والمنظمات السياسية .

وقد أدى الواقع الجديد والمعقد الذي نشأ بعد الاحتلال إلى تطورات عديدة على الساحة الصحفية والإعلامية وعلى مكونات المشهد الاعلامي العراقي لفترة ما بعد السقوط ، الكثير منها لم يكن متوقعا قبل الحرب . فقد أصبح العراق يعاني من فوضى إعلامية كاملة شبيهة بالفوضى السياسية والأمنية التي سادت به بعد الاحتلال . فقد تعددت في البلد الإصدارات الصحفية التي وصلت الى حوالي مائتي صحيفة تضاربت فيها الاتجاهات السياسية والحزبية . وأمام هذا الوضع وجدت وسائل الإعلام العراقية نفسها فجأة في مواجهة وضع جديد لم يعشه العراق طيلة العقود الماضية . بل حتى لم يعشه أي إعلام عربي منذ حصول الدول العربية على استقلالها في اواسط القرن الماضي حتى يومنا هذا . فبعد الرقابة الصارمة التي كان نظام صدام حسين يمارسها في إدارته لمختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة والتي كانت أشبه بنوع من أنواع الدعاية والوصاية ، أصبحت الساحة الإعلامية في العراق متاحة لكل من يريد أن يصدر جريدة أو ينشئ إذاعة أو يؤسس قناة تلفزيونية من دون رقيب . حدث هذا خاصة بعد أن أصدر الحاكم الأميركي السابق للعراق بول بريمر قراره بحل وزارة الإعلام العراقية مما أفرز عددًا من الظواهر تجسدت بشكل أو بآخر في حالة الفوضى والانفلات الإعلامي الذي أصبح هو القاعدة بينما ما كان سائدا من قبل هو الاستثناء.

فمنذ صدور ذلك القرار والاعلام العراقي اصبح يعيش حالة من النمو الكمي مدفوعا وبشكل تدريجي بنوع من التداخل والمنافسة والفرز الكيفي . فمع سقوط نظام صدام حسين اختفت كافة الأنظمة والقوانين التي كانت تنظم العمل الصحفي في العراق ، وأصبحت عملية إصدار صحيفة أو مجلة أو إذاعة أو تلفزيون لا تحتاج إلى أي موافقة أو تصريح مسبق من أية جهة حكومية . لذلك شهد العراق , ولازال ,  تزايدا ملحوظًا في عدد الصحف والقنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية المتباينة سياسيًا وحرفيا . فعلى مستوى الإعلام المكتوب ارتفع عدد الصحف الصادرة في العراق بعد الحرب من خمس صحف يومية في عهد صدام حسين إلى ما يتراوح بين 180 و 200 صحيفة يومية وأسبوعية وشهرية ، وكذلك صحف تصدر بين اونة واخرى . وتختلف هذه الصحف في توجهاتها واهدافها السياسية والأيديولوجية . اما الصحف الرسمية التي قامت سلطات الاحتلال بأصدارها ، والتي استمرت باصدارها فيما بعد الحكومات اللاحقة , فهي صحيفتي "الصباح" التي تصدرها شبكة الإعلام العراقي ، إضافة إلى صحيفة "الوقائع العراقية" الصادرة عن وزارة العدل العراقية . وقد اختصت هذه الصحف الرسمية في نشر القرارات التي كان يصدرها الحاكم الأمريكي بول بريمر ومن بعده الحكومات العراقية . في الاتجاه الآخر توجد الصحافة الحزبية والتي تسعى لنشر الأفكار والعقائد السياسية التي تتبناها الأحزاب أو العرقيات أو الطوائف الدينية والتعريف بها . فعدا الصحف الرسمية التي اشرنا اليها تصدر الآن في العراق عدد من الصحف اليومية بشكل منتظم أبرزها : الزمان/ المدى/ المشرق/ الشرق/ الاتحاد/ البيان/ العدالة/ العهد/ البينة/ البينة الجديدة/ المستقبل/ المستقبل اليوم/ العراق اليوم/ الصباح الجديد/ التآخي/ الاستقامة/ الموقف/ كل العراق/ الناس/  العالم/ المواطن/ بغداد الإخبارية/ الملاعب/ الدستور/ بلادي/ طريق الشعب , وغيرها . 


اما على مستوى الإعلام السمعي فهناك بالإضافة إلى الإذاعة الرسمية التابعة لشبكة الإعلام العراقي عدد من المحطات الإذاعية الناطقة بلسان الأحزاب والحركات السياسية المختلفة ، منها على سبيل المثال إذاعات : الهدى/ دجلة/ بغداد/ كربلاء/ الشرارة/ الحرية/ المستقبل/ العراق الحر/ كردستان العراق , وغيرها . وعلى مستوى الإعلام المرئي ، فان القناة الرسمية التي تعبر عن اراء الحكومة هي قناة "العراقية" التي تديرها شبكة الإعلام العراقي . وهناك ايضا القناتين الفضائيتين التابعتين للحزبين الكرديين الرئيسيين في العراق ، الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني . كما ظهرت قنوات اخرى عديدة اهمها : الشرقية/ البغدادية/ الديار/ السومرية/ الفيحاء/ الرافدين/ صلاح الدين/ الفرات , وغيرها . وقد وصل عدد المحطات الإذاعية والتلفزيونية إلى ما يفوق 60 محطة وهو رقم غير متوقع يدفع بالإعلام العراقي عربيا على مستوى الكم إلى احتلال مرتبة الصدارة متجاوزا إعلام دول عربية أخرى عريقة بهذا النشاط . وقد أفرز هذا الكم مع مر الزمن  كيفا إعلاميا كانت له تأثيراته كبيرة على الواقع العربي ، خاصة بعد العودة التدريجية لخبرات عراقية إعلامية منتشرة في العالم وانخراطها بالهيئات الاعلامية الجديدة . كما اصبحت الساحة العراقية متاحة لنشاط الاعلام الاجنبي دون سيطرة او ضوابط تحكم فعالياتها . فبعد ان احتكرت قناة "العالم" التي تبث من ايران , والتي كان يمكن التقاطها بالهوائي العادي , المشاهد العراقي طيلة فترة حرب عام 2003 وما بعدها نجد ان العديد من القنوات المسموعة والمرئية اصبحت متاحة للبث ضمن الفضاء العراقي . ومن بين تلك القنوات اذاعات "سوا" الامريكية و"البي بي سي" البريطانية وقناتي "الحرة-عراق" و"الحرة" الامريكيتين .

ان ما يعنينا من كل ما تقدم هو خصائص الإعلام العراقي الجديد ونوع الدوافع والأهداف التي تتحكم به وتسيره . أن وجود إعلام منظم يعتبر من أهم المعايير الدولية المعتمدة التي تحدد ديمقراطية أي نظام سياسي ودرجة الحرية المتاحة فيه ، خاصة عندما يكون الهدف المرسوم هو خلق مجتمع مدني حديث منسجم مع تاريخه وطموحاته عبر انشاء فضاء إعلامي متميز حر ومستقل وفعال . ومع ان البدايات كانت تهدف الى تحرير الاعلام من اي سيطرة وجعله منبرا حرا لطرح الافكار وتسويق التوجهات , الا انه عاد تدريجيا لكي يصبح اعلاما مسيطرا عليه ومسيرا مرة اخرى , ليس من قبل الحكومة هذه المرة بل من قبل جهات مختلفة وبطريقة تختلف عن حالته ايام النظام السابق . فمع بقاء التنوع بسبب الكم الكبير في نوع وعدد الوسائل الاعلامية المتاحة واختلاف الجهات التي تسيطر عليها , الا ان الاختلاف فيما بينها لم يكن محكوما من قبل قانون قبول الطرف الاخر والرأي المقابل الذي هو اهم مبدأ من مباديء الديمقراطية . فبعد فترة قصيرة من التحولات السياسية التي حدثت بالعراق بعد عام 2003 , أخذ الاعلام بكافة اشكاله يتأثر تدريجيا بالاحتراب والصراعات التي اخذت تبرز بين الحركات السياسية المختلفة , ليتحول فيما بعد الى وسائل تعبيرية من وسائل المواجهة بين هذه الجهات التي اصبحت تحترب سرا وعلنا على الساحة العراقية . فمنذ اواخر عام 2004 تقريبا , اخذت الكثير من وسائل الاعلام السائدة تتخندق طائفيا وعرقيا وتتحول الى وسائل مواجهة بدلا من ان تبقى منابر سلمية حرة . كما ابتدأت تسود بالبلد ظواهر جديدة تهدف الى تكميم الافواه , لكن بشكل مختلف هذه المرة عن ما كان سائدا في العهود الماضية , اذ يستند جوهره على تصفية المقابل عن طريق الاغتيال والخطف وغيرها من وسائل العنف . وقد ادى هذا الحال الى مقتل المئات من الاصوات التي كان تظهر بوسائل الاعلام لتعبر عن ارائها وافكارها ظنا منها انها اصبحت في بلد حر يتيح المجال لطرح الرأي والرأي المقابل . لم يكن هذا الامر مقصورا على اصحاب الرأي بل انتقل حتى الى العاملين بوسائل الاعلام من مقدمي برامج ومذيعين ومصورين ومخرجين وغيرهم . ادى هذا الوضع الى الاختفاء التدريجي للاعلام الحر عن البلد ولم يتبقى غير الاعلام الموجه الذي يمول من جهات معينة ويخدم اغراض خاصة . كما ان نوع الاعلام الذي ساد في الكثير من تلك الوسائل اصبح فاقدا للمهنية وتحول الى وسائل دعاية مبتذلة تدنت في مستوياتها وخطاباتها الى درجات وصل بعضها الى مستويات تثير السخرية من سذاجة الطروحات التي تصدر عنها . فقد غاب الخطاب الوطني كليا ولم يعد موضوعة العراق كوطن للجميع مهمة بقدر اهمية الطائفة والعرق والحركة , كما اصبح الخطاب الديني هو السائد في معظم وسائل الاعلام المقروةء المسموعة والمرئية الموجودة في البلد . ومع ان الامور الدينية لم ولن تكون مرفوضة في اي وقت وزمان , لكننا نجد بان الاعلام سخر نفسه في هذه المرحلة , عفويا او مدفوعا لطرح ومناقشة امور دينية وموضوعات بعيدة عن روح العصر لانها تركز فقط على امور طائفية في جوهرها , الامر الذي ساهم في تعزيز روح التفرقة في البلاد بشكل كبير . من ناحية اخرى فان بعض وسائل الاعلام , وخصوصا بعد اشتعال الحرب الطائفية بين الاعوام 2006 – 2008 , تحول الى مواقع تثير الرعب والفزع من هول المشاهد التي تعرضها والتي لم تكن غير جولات ضمن الحرب النفسية تهدف الى اشاعة الخوف والهلع في نفوس افراد الاطراف التي هي في مواجهة معها .

من جانب اخر , فان تغلغل النفوذ الايراني في العراق بعد عام 2003 وتصاعده الى الصدارة بعد الانسحاب الامريكي من العراق في اواخر عام 2011 كان له تاثيراته البالغة على وسائل الاعلام في العراق . فقد ادى هذه التغلغل والنفوذ المتصاعد الى الازالة التدريجية لكل انواع الاعلام الترفيهي عن المحطات المرئية والمسموعة , خصوصا تلك التي تدار من قبل تيارات دينية . وحيث ان كافة الحكومات العراقية بعد عام 2005 كانت تقاد بالاساس من قبل احزاب دينية في توجهاتها نرى بان فعاليات الغناء والرقص وعرض الافلام الترفيهية والاجتماعية اخذت تندثر تدريجيا من الوسائل الاعلامية الرسمية , وكذلك من المحطات التي تسيطر عليها احزاب وحركات سياسية تدور في الفلك الايراني او تمثل توجهات دينية طائفية . ليس هذا فقط , بل ان الاعلام المبثوث حتى بشكله الشخصي اصبح محكوما بالتوجهات الدينية السائدة في الشارع العراقي , حيث بات من غير الشائع مطلقا سماع غير الاشرطة ذات الطابع الديني في سيارات الأجرة والمذياعات الخاصة الموجودة بالمساكن او المحلات , او تلك التي تنصب في الساحات والمتنزهات والاماكن العامة مما يظهر , ولو بشكل غير معلن رسميا بان الغناء الترفيهي والعاطفي اصبح ممنوعا بالعراق ولا يجوز بثه او سماعه او رؤيته . ان هذه التوجهات لم تكن في الواقع غير تجسيد حقيقي ونقل وتقليد لتجربة الثورة الاسلامية في ايران والتي دأبت السلطة على ممارسته هناك منذ نجاح ثورتها عام 1979 . من جانب اخر فقد اغلقت جميع دور السينما والمسارح بالعراق ابوابها وتوقف نشاط شركات الانتاج السينمائي والتلفزيوني ولم يعد هناك اي فعاليات فنية ذات قيمة , باستثناء نشاطات قناة الشرقية التي استمرت بانتاج المسلسلات التلفزيونية , وكذلك بعض الحفلات الخاصة التي تقيمها المتبقية الباقية من النوادي الاجتماعية في البلاد . وبغياب دور السينما والمسارح انتشرت ظواهر بيع اقراص الافلام التي كثير منها افلام اباحية على ارصفة الشوارع وباسعار رخيصة نسبيا لا توازي سعر تذكرة سينما في اي بلد اخر . ونفس الامر انتقل بشكل انعكاسي الى وسائل الاعلام التي تديرها جهات تعمل بالضد من الحكومة او من النفوذ الايراني , اذ اصبحت تلك الوسائل لا تبث غير الخطابات والاعلاميات الدينية البحتة والاناشيد الجهادية , وهو امر يمكن تفسيره بسهولة لكون التخدق الطائفي بشكليه الشيعي والسني في العراق بات محكوما من قبل نفس التوجهات وذات العصبية .

وامام هذا الحال لم يجد المواطن العراقي غير التوجه بقوة نحو القنوات الفضائية التي تبثها الدول الاخرى , او اللجوء الى مواقع الانترنت حيث انتشرت المنتديات والمواقع التي ترفع فيها الاغاني والافلام . كما اخذ بعض العراقيين ينشرون ارائهم في المواقع المتاحة على الشبكة العنقودية التي تقبل نشر المقالات والكتابات المنوعة , ويرفعون الفيديوات التي تعبر عن حالهم وحال بلادهم كوسيلة من وسائل التعبير عن الرأي بعد ان غاب عن البلد عمليا الاعلام الحر المستقل النزيه , او على الاقل الاعلام "الامين" . من ناحية اخرى اصبح معظم العراقيين مدمنين على موقع الفيسبوك الذي اصبح وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي وطريقة امينة وفعالة لاطلاقه على الملأ دون خوف , خصوصا عند استخدام الاسماء الوهمية غير الحقيقية .

بعد هذا الاستعراض عن حال العراق يمكن القول بان الاعلام في العراق اليوم يعيش حالة غريبة من السيطرة الفكرية التي تفرضها الحركات السياسية التي تهيمن على الواقع والمشهد السياسي بالعراق , سواء الموالية للدولة او تلك التي تعارضها . ولو تسائلنا تساؤلا مشروعا هو : أذا كان العراق قد هوجم باسم إسقاط الديكتاتورية ومن أجل دعم الحرية ونشر الديمقراطية فيه ومن بينها زرع حرية التعبير عن الرأي دون خوف من خلال وسائل الإعلام , فلماذا اذن تحول الاعلام في هذا البلد الى وسائل ضغط قهرية وطرق كبت لا مثيل لها في بلد يفترض بان العالم كله تعاون على تحريره . نخلص من اي جواب على هذه التساؤلات هو ان مسألة تحرير العراق هو كذبة كبرى روج لها واستخدمت كغطاء من اجل غايات اخرى ليست لها علاقة لا بتحريره ولا تطويره . وان تدمير هذا البلد وتحطيم كل ركائزه الحضارية وازالة كل تراثه وارثه الثقافي التاريخي وتشريد علمائه ومثقفيه وكفائاته هي الهدف الحقيقي لكل ما جرى ويجري بهذا البلد منذ ثلاثة عقود حتى الان .

- يتبع -