دراسة من اعداد
وسام الشالجي
(1)
مقدمة
التراث الثقافي هو
كل ما أورثته
لنا الأجيال السابقة في مختلف الميادين
المادية والفكرية والمعنوية , او بكلمة اخرى هو كل ما ينتقل من عادات وتقاليد وعلوم وآداب وفنون ومعارف وابداعات ونحوها
, او ما يسمى
بالثقافة المادية والثقافة الغير مادية من
جيل إلى جيل .
أن حضارة أي شعب او مجتمع لا يمكن تقوم وتدوم وتستمر بدون وجود تراث
اصيل لكي لا يعتمد افراد ذلك الشعب على ما تنتجه الحضارات الأخرى . وحين يحفظ
التراث للامة فان في ذلك حفظ لكيانها وادامة لبقائها واستمرار لوجودها مهما تعرضت
للعدوان والتفرقة والتشرذم والضغط السياسي والاجتماعي والقومي . ويشمل التراث الثقافي
المفردات التالية :
1- التاريخ : وهو الصفحات المختلفة التي مرت بها حضارة الامة بما
فيها فترات الازدهار والانحطاط بالاضافة الى الاثار والمعالم والصروح التي تركتها
الاجيال السابقة وورثتها الاجيال اللاحقة
2- الثقافة المادية : وهي تشمل المهارات والقدرات والنتاجات
التي تنتقل عبر الاجيال بما فيها المهارات والقدرات الصناعية والزراعية وغيرها
3- الثقافة الغير مادية: وتشمل الاداب والفنون والعلوم والموروث الشعبي
والعادات والتقاليد وغيرها
وتستخدم
مواد التراث الثقافي المختلفة في إعادة بناء الفترات التاريخية للامم , وهو كل ما
تحتاجه لكي تنهض جديد , خصوصا حين تتعرض الى فترات مظلمة او انحطاط تمر في حياتها
. كما انه يستخدم أيضا لإبراز الهوية الوطنية والقومية والكشف عن ملامحها . وكما
ان التراث هو نتاج حضارة الامة فهو ايضا الباعث لها , اي بمعنى أخر "لا حضارة
بدون تراث" لأنها بدونه ستصير حضارة طفيلية ترتوي من تراث الآخرين دون تراثها
شأنها بذلك شأن الطفيليات التي تتقوت على مما تنتجه الأشجار الأخرى , فما إن تحبس
عنها الأشجار قوتها حتى تندثر وتزول مهما بلغت قوتها وقدراتها . وبوجود التراث في
الامة تصبح الحضارة فيها أصيلة لا تبعية عندها ، ومستقلة تملك جذورها العميقة التي
ستمتد وتغور في الارض .
ولكي تبقى اي امة
وتدوم , وتستمر حضارتها بالتواصل والتجدد يجب عليها ان تديم وترعى تراثها الثقافي
وتصونه وتحفظه سليما وغير محرفا بمختلف فروعه لكي يستلم من قبل الاجيال المتعاقبة
دون مساس او تحريف . ويقصد بمفهوم الحفاظ على التراث الثقافي للامة هو المحافظة
على الموروثات بمختلف اشكالها دون تغيير او تعديل يمس جوهرها او تلف يشوه معالمها
او اضافات تغير حقيقتها , وحمايتها من التدمير او التحطيم او السرقة , وكذلك عدم
ترك ظروف التطور الحضاري والتنمية الجديدة التي باتت تغزو كل مكان وكل شيء بالتأثير
عليها . كما يمتد مفهوم الحفاظ على التراث الثقافي الى معنى احياء ذلك التراث
وابرازه والتعريف به . والحفاظ على التراث الثقافي بهذا المعنى لا يعني تحنيطه
ووضعه في خزانة زجاجية لغرض العرض والتذكير بالماضي , بل يعني اعادة توظيف التراث توظيفا
ناجحا واعادة انتاج الجيد والصالح منه باعتباره يمثل القاعدة والخلفية الاساسية للتكوين
الحضاري للامة . ان الحفاظ على التراث
الثقافي هو حفاظ على الذات لان حياة الفرد والمجموع ليست الا تطور منطقي للماضي .
وقد يظن البعض بان الحفاظ على التراث الثقافي ما هو الا شكل من اشكال الرجعية
والرغبة بالعودة الى الماضي وتجسيد مفرداته في الزمن الحاضر . ان الحفاظ على
التراث الثقافي وحفظه وصيانته واعادة انتاجه اينما كان ذلك ممكنا ليس معناه استنساخ
الايام الغابرة ولا هو ردة ذهنية او عودة خيالية للماضي , ولا هو حنين عاطفي اليه
وانما هو ببساطة نقل واستمرارية لما كان موجودا مما ثبتت صحته وصلاحيته . ان هذا
النقل التلقائي لما هو مفيد من التراث هو تماما ما يعكس الشخصية الوطنية للفرد
والحس الجماعي للمجتمع لانه سيعبر في النهاية عن هويتهم وكيانهم ووجدانهم .
وعلى العكس مما تقدم نجد ان تدمير التراث الثقافي لاي أمة ,
او على الاقل تشويهه وتحريفه وتزويره يعتبر واحدة من افضل واقوى وسائل الانقضاض
على تلك الامة لتحطيم مكانتها الحضارية بين الامم وأطفاء اشعاعها الفكري الذي تميز
به . أن تدمير التراث الثقافي للامة يعني بشكل ادق تدمير لهوية المجتمع وتحطيم
لمكانة كل المرجعيات الموجودة به وابعادها عن دورها التاريخي بما يفقد المجتمع
خصوصيته التي ظل يتصف بها عبر الازمان . ان هذا الحال سيؤدي بدوره الى تساقط جميع
القيم والاخلاقيات التي يؤمن بها افراد هذا المجتمع بما يجعل الانسان فيه عاريا من
دون رداء يحصنه ضد اي غزو فكري وثقافي يأتي من الخارج قادما من الحضارات الاخرى
ذات الطبائع والسلوكيات والمفاهيم المختلفة . ليس من الصعب بعد ذلك الادراك بان
هذا الوضع سيعني موت هذا الانسان وتحويله الى مجرد حزمة نمطية من الرغبات
الاقتصادية والجسمانية التي يمكن التنبؤ بسلوكها , وبالتالي يمكن التحكم بها والسيطرة
على صاحبها وتوظيفه داخل المنظومة الجديدة التي يجري خلقها على انقاض المجتمع السابق
.
ان أي رؤية موضوعية لما جرى في عالمنا العربي
خلال المئة سنة الماضية يمكن ان يجعل اي
مراقب يستنتج بان المنطقة تمر تقريبا في حالة تغير كبرى كل 50 سنة تقريبا . فبعد
معاهدة سايكس بيكو عام 1916 وانتهاء الحرب العالمية الاولى عام 1918 مرت الاقطار
العربية في فترات انتداب متباينة المدة , اعقبتها حالات استقلال ظلت فيه الدول
العربية مرتبطة بنفس الدول التي استعمرتها . كما كانت اغلب الانظمة التي جرى
تشكيلها خلال فترات الانتداب او بعدها هي انظمة مستنسخة عن انظمة الدول المستعمرة
نفسها . فلو اطلعنا على الدول العربية التي استعمرتها بريطانيا سنجد بان جميع
الانظمة التي خلقت فيها كانت انظمة ملكية او اميرية الحكم فيها محصور بأسر معينة .
وعلى الجانب الاخر نرى بان الأنظمة التي وجدت في الدول التي كانت من حصة الاستعمار
الفرنسي كانت انظمة جمهورية تشبه الى حد كبير نظام الحكم الفرنسي الجمهوري . بقيت
تلك الأنظمة بالحكم فترات مختلفة كانت فيها مرتبطة بمستويات متباينة مع الدولة
المستعمرة الاصلية . ولكن بعد مضي فترة نصف قرن تقريبا تساقطت معظم تلك الانظمة
بالتتابع كما تتساقط قطع الدومينو , وجرى تنصيب انظمة بديلة محلها . كانت الانظمة
الجديدة انظمة قومية في هويتها وثورية في اساليبها يفترض انها انبثقت عن قواعد
جماهيرية لكنها لم تسفر بالنتيجة عن غير تكوين انظمة شمولية دكتاتورية تسلطية .
وعلى انقاض الحكومات السابقة قامت هذه الانظمة الجديدة بتغيير كل شيء في الدول
التي تسلطت عليها واخذت تبني تجارب جديدة تعكس افكارها ومبادئها . وبعد مضي عدة
عقود في الحكم كانت الحصيلة كوارث متلاحقة الحقت الويل بتلك البلدان . وبعد ان
قاربت الـ 50 سنة الثانية من بعد معاهدة سيكس بيكو على الانتهاء اخذت الانظمة
القومية في الدول العربية تتساقط ايضا بالتتابع بشكل او بأخر مع وصول حركات دينية
الى الحكم متشددة بدرجات تتفاوت بين دولة واخرى . واستنادا الى ما مر , فان من
المنتظر ان تتربع هذه الانظمة على الحكم الى نصف قرن قادم لتخوض تجاربها الخاصة والتي
لا توحي الامور بانها ستكون افضل مما مر بل اسوأ منه بكثير .
ومن يطلع بدقة على ما حدث , خصوصا في السنوات
الاخيرة يرى بوضوح ان واحد من اهم الموروثات التي يجري ذبحها والقضاء عليها هو
التراث الثقافي العربي , سواء ان كان ماديا او غير مادي . ان هذه الحقيقة لا تحتاج
الى ادلة ولا براهين بل يكفي مراقبة ما يجري عن كثب للأدراك بان هذا التراث هو من
المستهدفات الرئيسية ضمن الاحداث التي تجري بالمنطقة . ونظرا لتكرر الحالة وتشابه
الظروف والاعمال والنتائج في اكثر من مكان على الساحة العربية فان المرء سيرغم على
التساؤل مع نفسه قبل ان يفعل ذلك مع الاخرين , هل ان ما يجري من تدمير للتراث
الثقافي العربي هو مؤامرة ؟ وهل ما يجري لهذا القطاع هو مؤامرة صغرى ضمن مؤامرة
اكبر تهدف الى تحطيم كل المعاني الحضارية لهذه الامة والتي توارثتها منذ ان وجدت
على ظهر الارض حتى يومنا هذا . لو عددنا ما جرى تحطيمه فعلا , وما وضع في القائمة لتحطيمه
في المستقبل القريب والبعيد سنتأكد بان التراث الثقافي لهذه الامة هو من الاولويات
المستهدفة , وان تحطيمه والنيل منه هو فصل في غاية الاهمية موضوع لكي يجري تنفيذه ضمن
المخطط المعد للمنطقة , وانه موضوع بعناية ودقة .
قد يقول البعض بان هذه النظرة هي تكرار لمفهوم
نظرية المؤامرة الذي يجري تداول مصطلحه على الالسن باستمرار لاظهار اي مفكر وكأنه
يمتلك عقلية نابعة من روح مرتابة وغير واقعية . ان خلق هذا الأعتقاد لدى الناس هو
نفسه قد يكون جانب من هذه المؤامرة لانه يهدف الى ابعاد الذهن عن ادراك حالة
الاستهداف المخطط له ودفعه باتجاه الظن بان كل شيء يحدث هو في الواقع ليس الا وليد
الظروف والصدفة وناتج عن تسلسل الوقائع التي تجري بعفوية . لكن هذا بعيد جدا عن
الحقيقة , لانه ليس هناك ابدا من شيء متروك للصدف والاقدار , وانما كل شيء يمضي
حسب سيناريو معد باحكام لا ينتظر فيه حصول مفاجأت غير متوقعة . ولكي نفهم ما يجري
ونعرف تفاصيل ما يحدث ونصل الى جواب للسؤال المطروح بعنوان هذه الدراسة سنمضي بدراسة
وتحليل الوقائع التي حصلت في عالمنا العربي بصورة عامة وما جرى ويجري للتراث
الثقافي العربي بصورة خاصة خلال العقود الماضية لكي نخرج في نهايتها بنتيجة مرضية
لهذا التساؤل .
سيبدأ هذا المبحث بدراسة الحالة العراقية لعدة
اسباب , اولها هو ان هذه الحالة يمكن اعتبارها حالة نموذجية مثالية قابلة للتكرار على
اكثر من ارض عربية . السبب الثاني هو ان الحالة العراقية تتضمن اكثر من تطبيق
لتعدد فصولها حسب الظروف والوقائع التي مرت بها . السبب الثالث هو ان الحالة
العراقية كانت الحالة الاصعب من بين كل الحالات التي جرى تطبيقها ضمن فصول ومفردات
المخطط السايكس بيكوي الذي يجري تطبيقه في كل مرحلة . السبب الرابع هو ان تحطيم
الارث الثقافي العراقي اتخذ اكثر الفصول تجسيدا ونجاحا في تحقيق اهدافه واغراضه ,
وانه يصلح جدا لان يؤخذ كمثال يمكن استنساخه وتطبيقه في اي مكان اخر ضمن هذه
التجربة . وبعد العراق سيتم استعراض حالة البلدان العربية الاخرى المشابهة ورؤية العمليات
التي جرت وتجري , خصوصا تلك المتعلقة بموضوع هذه الدراسة . نحب ان نبين للقاريء العزيز
بان هذه الدراسة لا تهدف الى تقييم الظروف والاحداث السياسية التي مرت ببلد معين
او بالمنطقة , ولا الانحياز الى جهة معينة على حساب اخرى , بل سيتم تناول الوقائع
بحيادية تامة وبطريقة استعراضية بقدر ما يسمح به الموقف دون الاخلال بالحقائق الثابتة
التي حصلت سواء كانت لصالح هذا الطرف او ذاك , او تقف بالضد من هذه الجهة او تلك .
- يتبع -