اخر المواضيع في المدونة

الخميس، 11 أكتوبر 2012

قصتي مع مجلة سندباد - من وحي الطفولة


عرفت مجلة سندباد في اواسط الستينات , اي بعد عدة سنوات من توقفها , اذ صادف وان كنت مع اهلي في زيارة لبيت عمتي في بداية العطلة الصيفية فرأيت عندهم المجلدات الاربعة الاولى من المجلة . اخذت اتصفح احد المجلدات فاستهوتني المجلة جدا , وقد توسلت من زوج عمتي بان يعيرني المجلد لقرائته في بيتنا لكنه رفض بشدة . بعد ذلك اصبحت اتعمد تكرار الزيارة لبيت عمتي لغرض ان اداوم على قراءة تلك المجلدات , وكانت قصصها تحلق بي في عوالم اخرى , وكنت اغيب عن الواقع في احساس جميل ولذيذ لم اعرفه من قبل . لم تمضي فترة طويلة حتى استكملت قرائتها جميعا فقررت ان اشتري لنفسي مجلدي الخاص . كانت مجلدات سندباد تباع في تلك الفترة فقط في مكتبة المثنى الشهيرة في بغداد بمبلغ 600 فلس (او ما يعادل دولارين) للمجلد الواحد , وكان مبلغا ضخما بالنسبة لطفل مثلي لازال بالابتدائية , وربما حتى لغيري لان كل من طلبته منهم استصعبوا توفيره لي . لم اجد غير ان اصبر وانتظر فرج الله عله يسير لي من يعطيني مثل هذا المبلغ . واخيرا وبعد طول انتظار حصلت على هذا المبلغ من جدتي التي كانت تستلم كل ثلاثة أشهر تقاعد ابيها الجاويش بالجيش العثماني (وتسميه تقاويد) وتقوم بتوزيع بعضه على من تحب , وحين رأتني حزينا رأفت بحالي واعطتني كل هذا المبلغ بالرغم من انها لم تكن تعطي احد اكر من ربع دينار . طرت من الفرح وهرعت على الفور الى بيت عمتي وحدثت زوج عمتي بالامر فطلب من احد ابنائه الكبار بان يأخذني الى مكتبة المثنى في شارع المتنبي لشراء المجلد الذي اريده . حين دخلت المكتبة وكانت عبارة عن دار عتيقة مملوءة غرفها بالكتب انبهرت من ضخامتها واعجبتني رائحة الكتب التي ظلت في انفي الى يومي هذا . تحدث ابن عمتي مع صاحب المكتبة (المرحوم قاسم محمد الرجب) الذي كان يجلس خلف مكتب كبير في باحة المنزل ومحاطا من كل جانب بصفوف عالية من الكتب , فقال لابن عمتي اصعد الى الطابق الثاني فهناك غرفة خاصة لكتب الاطفال . صعدنا الدرج وما ان دخلنا الغرفة المعنية حتى طار عقلي , كانت مملوءة بقصص الاطفال من كل الانواع , وكان هناك العشرات من مجلدات سندباد حتى تمنيت في حينها ان اترك لاعيش الى الابد في تلك الغرفة . اخترت المجلد الخامس على اساس اني قرأت المجلدات الاربعة الاولى , وحين عدت الى البيت كان ذلك بحق من اسعد ايام حياتي . اخذت اقرأ المجلد بنهم شديد , وحين كان ياتي المساء واذهب الى فراشي كنت اخذه معي واحتضنه وامسد عليه بحنان بيدي . لم تمضي الا عدة ايام حتى استكملت قرائته من الجلد الى الجلد , فعدت بذلك الى نفس المشكلة السابقة من جديد وهي كيف ساحصل على مجلد اخر خصوصا بانه لم يكن من السهل علي تكرار هذا الطلب الذي استغرق تلبيته لي اكثر من شهر . في نفس السنة سافرنا للتصييف الى مصيف بلودان في سوريا , وهناك التقينا بخالي الذي كان طبيبا ويعيش في الخارج . كنت حزينا طول الوقت لاني تركت مجلدي في بغداد , وكان خالي يسالني عن سبب حزني وكنت اقول له باني اريد مجلد سندباد . وعدني خالي بان يشتري لي مجلد حين يذهب الى دمشق . كان خالي يذهب باستمرار الى دمشق , وحين كان يعود في المساء كنت انتظره بلهفة منتظرا المجلد وكم كنت احزن وابكي حين يقول لي بانه لم يعثر على ما اطلبه . قام خالي بسؤال اغلب المكتبات في دمشق دون فائدة , وبعد ان يأس وعدني بأنه سيذهب في احد الايام الى بيروت وسيسأل هناك وبالفعل ذهب ولكنه لم يعثر عليه ايضا . لم اكن اعلم في حينها بان المجلة متوقفة عن الصدور وان مجلداتها لا تباع الا في اماكن محددة , لذلك لم اكن اصدق بعدم وجود مجلدات سندباد في المكتبات بعد ان شاهدت العشرات منها في مكتبة المثنى , وقد كنت اتصور ان ما يجري معي هو ليس غير محاولة للتهرب من شراءه بسبب غلاء ثمنه . وبعد سنين عديدة علمت بان تلك المجلدات التي رايتها في مكتبة المثنى هي في الحقيقة نسخ معادة كانت دار المعارف بمصر قد طبعتها من جديد في اوائل الستينات . عدنا الى بغداد وبدأ العام الدراسي وبقيت اكثر من سنة مع المجلد الوحيد الموجود عندي . كانت صور المجلة التي يرسمها المصور المرحوم بيكار تعجبني الى درجة كنت اضع ورقة بيضاء على الرسوم واستنسخها ثم اقوم بتلوينها حتى تكاد تصبح مطابقة للاصل تقريبا . كان اول شيء اهرع اليه بعد عودتي من المدرسة هو مجلد سندباد , وكانت شدة تعلقي به وملازمتي وحملي له طول الوقت قد ادت الى تفصخه مما اخرج المجلات من مواضعها فضاع بذلك علي المجلد الوحيد الذي املكه . لم احصل على مجلد اخر من سندباد الا في العطلة الصيفية التالية واعتقد بانه كان المجلد رقم 7 , ولا ادري لماذا لم اشتري المجلد رقم 6 في حينها . لم نكن فقراء الحال بل بالعكس كان مستوى عائلتي المادي جيدا , لكن الانفاق كان امر مرتب ومدروس ولايجري على التوافه كما هو الان . كنت اعلم بانه ليس من السهل ان احصل على سعر اي مجلد اريد ان اشتريه دفعة واحدة من ابي او امي , لذلك كنت ادخر من مصروفي البالغ عشرة فلوس يوميا طيلة العام الدراسي لكي استجمع سعر المجلد . تكررت هذه الحالة وكنت اشتري مجلد واحد تقريبا كل سنة , لذلك كان اعتزازي بها شديدا . بلغ مجموع المجلدات التي اقتنيتها حوالي ثمانية , وقد عرفت بعدها بان المجلة متوقفة عن الصدور وانها في الحقيقة ليست من المجلات المعاصرة , لاني حين كنت اتحاور مع اصدقائي في المدرسة عن مجلات الاطفال كان اغلبهم لا يعرفونها . كنت خلال تلك الفترة اشتري ايضا مجلات سمير وميكي وسوبرمان وبساط الريح , ولكني كنت لا اميل الى مجلات سمير وميكي بسب استخدامها للهجة المصرية العامية وكنت اجد صعوبة في قرائتها . في احدى المرات صادف ان دخلت احدى المكتبات فوجدت لديه كمية ضخمة من اعداد مجلات سندباد معروض للبيع , وحين سالته عن السعر قال لي بانها بمبلغ عشرين فلسا للمجلة الواحدة . اخذت اتردد على تلك المكتبة من وقت الى اخر واشتري اعداد متفرقة من المجلة . تكونت لدي مجموعة ضخمة من مجلدات ومجلات سندباد اضافة الى العشرات من المجلات والقصص الاخرى بحيث اصبحت لي مكتبة معتبرة بها .
في اخر سنة لي في الاعدادية كان ولعي بمجلات الاطفال قد زال تقريبا , وكمراهق اصبحت تشدني اشياء اخرى لا علاقة لها بتلك المجلات مما جعلني اهملها تقريبا واتوقف عن شراء المزيد منها . كان لي قريب يكبرني بعدة سنوات وكان يتردد كثيرا على منزلنا ويظهر صداقته لي . لم اكن احبه كثيرا لكني كنت مضطرا لمجاملته عند زيارته لنا . كان يدخل الى غرفتي ويطلع على مقتنياتي , ومن بينها المجلات والمجلدات والقصص التي املكها وكثيرا ما كان يبدي اعجابه واهتمامه بها . وحين لاحظ عدم انشغالي بتلك الكتب والمجلات اخذ يزيد من اظهار الاهتمام بها , وكنت اتضايق حين يبقى في الغرفة بحجة انشغاله بقرائتها . بعد فترة من هذا قال لي لماذا لا تعطيني هذه الكتب والمجلات اذا كنت لاتهتم بها , رفضت طلبه طبعا ولكنه ظل يكرره علي في كل زيارة يقوم بها . وبعد المزيد من الالحاح رضخت لطلبه على مضض , واقترفت دون ان اشعر باكبر غلطة في حياتي والتي لازلت نادما علها حتى يومي هذا , ويا ليت بان الحال توقف عند هذا الحد لكن الطامة الكبرى حدثت فيما بعد . كنت معتادا حين اعود من مدرستي ان امر باحد الاسواق التي تقع في طريقي والتي يتواجد فيه الكثير من باعة الارصفة ومن بينهم باعة الكتب . وفي اليوم الثاني من اخذه لجميع ما املك من كتب ومجلات الاطفال عدت من المدرسة ومررت بالسوق فاذا بي اجدها جميعا معروضة للبيع عند احد باعة الارصفة في السوق . صدمت صدمة شديدة لمنظر مجلداتي ومجلاتي وهي تباع على الرصيف , وكنت متلهفا لمجيئه الى دارنا لكي اسأله عن هذا الامر . كان معتادا لان ياتي الى منزلنا كل يومين او ثلاثة ولكنه تاخر هذه المرة لعدة اسابيع . وحين جاء وسالته نكر بشدة ولكنه بعد ان رأني واثقا مما اقول اعترف وقال بأنه فعل ذلك لانه كان محتاجا لبعض النقود . وكان هو منذ فترة يقوم بنفس الدور معي طالبا ان اعطيه طوابعي التي كنت اهوى جمعها , لكن الله حفظها لي منه بعد هذه الحادثة . كان هذا القريب من وسط مادي اقل من مستوى عائلتي , وقد عرفت فيما بعد بانه كان يكرهني ويحسدني على كل ما كنت فيه , وبعد ان كبرت وصار لي اطفال علمتهم بان لا يصادقوا ابدا الا اشخاص من نفس وسطهم المادي , لا أعلى ولا أقل .
بقيت سنين عديدة نادما على ما فعلته , وكم حاولت ان اعيد استجماع موجوداتي من مجلدات ومجلات سندباد لكن بدون فائدة لانها كانت قد غابت عن الساحة تماما . وقبل عدة سنوات صادف ان كنت في شارع المتنبي في بغداد الذي اصبحت من رواده , وكم ذهلت حين رايت بعض اعداد المجلة معروضة للبيع فاشتريتها على الفور دون حتى مناقشة السعر . عدت الى داري بنفس الاحساس الذي حملته حين اشتريت المجلد الخامس لاول مرة في حياتي وغبت مرة اخرى بقراءة تلك الاعداد , حتى ان زوجتي اخذت تتندر على حالتي مع صديقاتها وتقول لهم بانها اكتشفت بانها متزوجة من طفل كبير . هذه قصتي مع مجلة سندباد اتمنى ان تكون قد اعجبتكم .

 
وسام الشالجي