بقلم
لم
يشهد اي بلد في العالم حرب شعواء شنت على كفاءاته ومن قبل جميع القوى
الفاعلة في المجتمع كما حصل في العراق خلال الخمسين عاما الماضية . ان هذه
الفئة مكروهة ومحاربة بلا هوادة . ان اول فئة تحقد على الكفوء ويصيبها
الغيض منه ومن قابلياته بسبب عوامل الغيرة والحسد وتعمل كل جهدها لتحطيمه
هي الشريحة المباشرة التي تحيط بالكفوء , سواء من زملائه العاملين معه
الذين يرون فيه منافسا لهم او من رؤسائه المباشرين الذين يخشون من صعوده
وتقدمه عليهم . ان هذا الحقد والغيض يترجم نفسه عادة في محاولات حثيثة
لتدمير الكفاءة الوليدة عن طريق تطويقها لأبعادها عن عناصر النجاح الضرورية
او في محاربتها باي شكل لافشالها , او على الاقل العمل على تهميشها بقدر
ما كان ذلك ممكنا . وقد تفوت الفرصة على مثل هؤلاء وتأخذ الكفاءة فرصتها في
النبوغ والظهور في المجتمع , الا ان عوامل الكره والحقد الموجودة في نفوس
الحاسدين تجاه الكفاءة الوليدة لا تنتهي او تتوقف ولكنها غالبا ما تكمن في
سبات خفي متحينة الفرص لكي تظهر وتسفر عن نفسها من جديد . ويؤدي هذا الحال
الى بقاء الكفوء مستهدفا طيلة حياته , واذا لم يكن فطنا وحذرا فانه يمكن ان
يسقط بسهولة في كثير من الافخاخ والمؤامرات التي تحاك ضده .
ولكي نعرف السبب في هذه المعاداة لابد لنا ان نعرف ماهي الكفاءة ومن هو الكفوء . يختلف الكثير منا في فهمهم لمعنى الكفاءة , فالغالبية منا يربطون مفهوم وتعريف الكفاءة بحملة الشهادات العليا وهذا فيه خطأ كبير . من الطبيعي بان يكون من حصل على شهادة عليا كفوء في مجال تخصصه بشكل ما لكي يستطيع ان ينال تلك الشهادة , لكنه ليس بالضرورة ان يكون متميزا في اختصاصه ومبدعا في عطائه وانجازه . كما ان هناك الكثيرين من الاشخاص ممن هم مبدعين ولامعين في عملهم وتخصصهم بالرغم من عدم نيلهم لشهادة عليا , او حتى شهادة اولية في بعض الاحيان . من هنا تبرز الحاجة الى فك الاتباط بين تعريف ومفهوم الكفاءة من مسألة الشهادة العلمية وربطه بطريقة ما بألمعية الشخص وتميزه في المجال الذي يعمل فيه . وبالرغم من كون هذا المفهوم منصف الى حد كبير في تعريف الكفاءة وتحديد وتشخيص الكفوء الحقيقي الا ان فيه خطر كبير في نفس الوقت , لان اعتماده يمكن ان يخرج الامر من دائرة الشهادة التي يسهل تعريفها وتحديد شخصيتها الى دائرة الابداع والألمعية التي يصعب وضع مؤشرات محددة لها . ان هذا التغير بالمفهوم اذا ما اعتمد سيسهل الى حد كبير من امكانية خروج التعريف والتشخيص عن هدفه الحقيقي وتلبيس اشخاص غير كفوئين رداء الكفاءة دون وجه حق . لذلك فان الربط بين الاثنين , اي الشهادة والألمعية يبقى مطلوبا لانه أئمن اسلوب يمكن ان يتوفر لتعريف الكفاءة وتحديد الكفوء . وبهذه الطريقة يكون الكفوء هو كل شخص يحمل شهادة عليا يقدم انجازات مبدعة في مجال تخصصه بما يدفع هذا الاختصاص الى الامام ويعزز من تطوره وتقدمه وبما يقدم ايضا خدمة ملموسة للمجتمع .
يعني ما تقدم بان الكفوء هو الشخص الوحيد الذي يعول عليه في تقدم البلد وتطوره العلمي والاجتماعي ورقيه الحضاري . ويعني هذا ايضا بان البلد الذي يسعى نحو هذا يتحتم عليه ان يرعى هذه الكفاءات ويزيد من اعدادها ويوفر لها الفرص والعيش الكريم لانها ستعطيه بالمقابل الكثير . غير اننا لو تتبعنا تاريخ هذه الشريحة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وعلى مدى العهود المتتابعة التي مرت بها لوجدناه مختلف كليا عن ما ينبغي ن يكون عليه . لقد ظل الكفوء مهمشا في اغلب العهود , وظلت الكفاءة تقتل اينما كان ذلك ممكنا . وعدا عن حالات استهداف العناصر الكفوءة من قبل فئات من خارج وسطها الا ان هناك حالات استهداف داخلية برزت من نفس وسطها . ففي خلال عقد السبعينات واجه اصحاب الكفاءات من خريجي الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية حملة شديدة من قبل اقرانهم من خريجي دول اوربا الغربية واميركا عن طريق اتهامهم اما بالشيوعية او بالقصور العلمي او باستعمالهم لطرق فاسدة لنيلهم شهاداتهم العلمية . وقد ادى ذلك الى ابعاد وتهميش عدد كبير من هؤلاء مما اضطرهم الى ترك العراق والعودة الى الدول التي تخرجوا منها . من جانب اخر فان العراقيين حرموا تقريبا من فرص الدراسة في الخارج اثناء عقدي الثمانينات والتسعينات مما ابقى الدراسة داخل العراق هو المجال الوحيد المتوفر لاكمال الدراسة العليا للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه . ومع ان الدراسة العليا في العراق لم تكن قاصرة الا ان الذين اكملوها في الوطن ظلوا يشعرون بالنقص تجاه اقرانهم القدماء الذين اكملوها بالخارج بسبب عوامل التمييز التي اتبعها مرة اخرى هؤلاء الاقران بنفس الطريقة التي اتبعوها مع خريجي الدول الاشتراكية . وقد تحول هذا الشعور تدريجيا الى شعور دفين بالحقد والضغينة تجاههم , خصوصا وان المناصب الرئيسية والمهمة في الجامعات ومؤسسات البحث العلمي ظلت تقريبا من حصة القدماء الذين احتكروها على اعتبار انهم من مرتبة اعلى . لقد كان هذا التمايز مدعاة الى قيام حرب غير معلنة بين الفئتين من العناصر الكفوءة استثمر فيها بالذات الجانب السياسي لتصفية الاخر على قدر ما كان ذلك ممكنا . وكصور لبعض مظاهر هذا الصراع فقد حدثت الكثير من اعمال التصفية التي تعرض لها اصحاب الكفاءات خلال عقود حكم النظام السابق عن طريق البلاغات الكيدية وحياكة الدسائس والمؤمرات والتي ادت الى ضياع كفاءات عراقية كثيرة هي من المع ما انجبه البلد .
كان النظام السابق يرعى في الكثير من اجرائاته وقوانينه اصحاب الكفاءات , لسي حبا بهؤلاء أو لسواد عيونهم لكن لحاجته الماسة اليهم في تنفيذ برامجه العلمية والتطويرية خصوصا التسليحية منها . وقد كان النظام مصرا على استقطاب العناصر الكفوءة الى صفوفه من خلال ضمهم الى حزب السلطة بمختلف الوسائل , وقد استخدم شتى انواع الضغوط لتحقيق ذلك خصوصا في حصر فرص اكمال الدراسات العليا بالبعثيين , او في عدم السماح لاي شخص يمتهن مهنة التدريس مالم يكن منتميا لهذا الحزب . وقد اضطر الكثير من االشبان الطموحين الى مسايرة هذا الوضع والانضمام الى الحزب الحاكم ليس لأيمانهم بفكره بل لان ذلك كان الطريق الوحيد المتاح امامهم لاستثمار قابلياتهم ومواهبهم ونيلهم لفرصة لاكمال دراستهم العليا . وللاسف فقد دفع هؤلاء فيما بعد ثمنا باهضا لما اضطروا على سلوكه وحوسب الكثير منهم دون مراعاة لهذا الجانب الاضطراري . وبالرغم من كل مظاهر الرعاية التي خص بها ذلك النظام اصحاب الكفاءات الا ان ذلك لم يمنع من قيامه بنفسه في تصفية عدد ليس بقليل منهم وبمختلف الطرق بعد امتصاص جهودهم واستنزاف عطائاتهم , خصوصا العناصر التي حققت انجازات هامة وصعدت الى مواقع متقدمة في الدولة . وقد كان استهداف العناصر الكفوءة من قبل النظام الحاكم يحدث لاسباب مختلفة , فهو اما حدث بسبب ظهور حالات من الغرور على قسم من هؤلاء بعد نجاحهم في تحقيق ابداعات مهمة , او تحوطا من هربهم الى الخارج وكشفهم للبرامج التسليحية التي يقوم بها النظام , او بسبب مشاعر الحقد والحسد التي تتولد تجاههم لدى بعض النفوس المريضة من الفئات المتنفذة في ذلك النظام .
وخلال سنوات الحصار الاقتصادي على العراق بين عامي 1990-2003 وما صاحبها من ضيق وعوز شديدين اوصلت مقدار ما يتقاضاه الاستاذ في الجامعة الى ما لا يزيد عن بضعة دولارات بالشهر اخذ العديد من هؤلاء الاساتذة يفكرون بالسفر الى الخارج والهجرة الى الدول التي تقبل هجرة العراقيين اليها . كانت اهم الدول التي تقبل طلبات الهجرة هي نيوزلندة وكندا , اما الدول التي تقبل طلبات اللجوء فكانت هولندا والسويد والمانيا . لم يكن سلوك هذا الطريق سهلا , اذ كان يتطلب نفقات هائلة في قياسات ذلك الزمان , كما انه كان يحتاج الى السفر الى دول الجوار كخطوة اولى وهو بحد ذاته لم يكن امرا سهلا . لكن مع ذلك فقد قرر البعض منهم المجازفة والتضحية بما جنوه طيلة العمر وسلوك هذا الطريق . سافر هؤلاء اولا الى دول مجاورة بحجج مختلفة كالعلاج وغيرها , او من خلال استغلال الايفادت الحكومية الى الخارج . بعد ذلك اتجهوا الى السفر الى احدى الدول التي تقبل العراقيين سواء بوسائل شرعية أو بطرق غير شرعية . بالنسبة للطرق الشرعية فقد قدم بعض اصحاب الكفاءات طلبات هجرة الى كندا ونيولندة من خلال سفارات تلك الدول في سوريا والاردن . اما الطرق الغير شرعية فقد تضمنت دفع اموال طائلة الى بعض المهربين لايصال اللاجئين عن طريق التسلل الى المانيا او هولندا والسويد . وقد فشلت الكثير من محاولات التهريب وقبض على المتسللين واعيدوا الى العراق مما اضاع على هؤلاء كل تحويشات العمر بعد ان فقدوا مساكنهم واعمالهم . وقد ادى هذا ايضا الى محاسبة هؤلاء عن محاولاتهم في السفر الى الخارج وتركهم لاعمالهم ووظائفهم وزج بعضهم في السجون باحكام ثقيلة . كما ان قسم اخر فقدوا حياتهم وحياة افراد اسرهم نتيجة لغرق القوارب التي كانت تقلهم والتي كان يستأجرها المهربين لنقلهم الى سواحل الدول الاوربية . مع كل هذه المصاعب الجمة والقاسية نجح عدد غير قليل من اصحاب الكفاءات بالوصول الى المانيا وهولنده والسويد , وهناك تخلصوا من جوازاتهم وتقدموا بطلبات لجوء الى تلك الدول .
كانت قوانين الهجرة بالدول الاوربية سمحة وشديدة الانسانية في اجرائاتها مما يتيح فرص لجوء لا يحلم بها الانسان . فبعد فترات قليلة من البقاء في معسكرات اللجوء ينقل هؤلاء الى السكن في شقق مريحة وتصرف لهم رواتب مجزية ويوفر لهم ضمان صحي واجتماعي ويسجل اولادهم في المدارس وتوفر لهم معونات غذائية . كان هذا الحال اشبه بالجنة اذا ما قورن بالحال الذي كان عليه هؤلاء في بلدهم العراق . غير ان اصحاب الكفاءات واجهوا معضلة كبيرة للغاية هي عدم معرفتهم للغات البلدان التي منحتهم فرص اللجوء . لذلك لم يسهل عليهم الحصول على اعمال تشابه اعمالهم ككفاءات علمية حين كانوا في العراق . ونتيجة لهذا لم يكن امامهم من خيار غير الانخراط في اعمال لا تشابه اعمالهم السابقة او لاتتناسب مع مكانتهم في المجتمع . وبالفعل انخرط بعض هؤلاء في مثل تلك الاعمال لمجرد ان لا يبقوا عاطلين , لكن القسم الاعظم منهم فضل البقاء بدون عمل والاكتفاء بالمعونات التي توفرها الدولة والتي كانت اكثر من كافية , بل مترفة اذا ما قورنت باحوال امثالهم الذين ظلو بالعراق . وبسبب هذا الكرم ومتاعب اللغة وصعوبة الحصول على اعمال تحول اصحاب الكفاءات العراقية الى عطالة بطالة يعيشون فقط لكي يأكلون ويشربون دون انجاز او عطاء لا لانفسهم ولا لغيرهم . قد يبدوا انتقاد هذا الحال اشبه بالبطر , لكنه في الواقع من اسوأ ما يمكن ان يصبح عليه الانسان الكفوء والمبدع لانه لا يختلف عن القتل بشيء فهو بالنهاية سيحطم الكفاءة ويحول صاحبها الى حيوان يعيش ليأكل فقط . وسواء ان كان هذا الحال مقصودا او غير مقصود , فان النتيجة كانت قتل الكفاءة وتدميرها وتجميد من يحملها .
ان ما حصل للكفاءات العراقية خلال سنوات الحصار قبل عام 2003 , سواء هؤلاء الذين ظلوا بالعراق او الذين هاجروا منه يمكن ان يعتبر جزء من حملة التدمير وحلقة من حلقات الحرب المشنة ضدهم . ومع ان أستهداف العناصر الكفوءة في المجتمع العراقي كان يجري في كل الازمنة والعهود تقريبا , الاان ما حدث بعد نيسان من عام 2003 كان مختلفا تماما عن ما كان يجري قبل هذا التاريخ . فبينما كانت جميع الحملات التي تشن على تلك العناصر قبل الاحتلال مستترة وخفية ومحدودة الى حد ما , فان الحال تغير تماما بعد ذلك . فبعد هذا التاريخ كشفت تلك الحملات عن وجهها الحقيقي واسفرت عن نفسها بشكل واضح وجلي , فقد حدثت ثورة عارمة ضد هذه الشريحة وانطلقت مشاعر الحقد تجاههم من القمقم الذي كانت محبوسة فيه وبشكل لم يجري مثيله في اي مكان اخر بالعالم . فعلى حين غرة وجد اصحاب الكفاءات انفسهم معرضين للاستهداف بشكل مباشر من قبل عشرات القوى التي تنفذت في المجتمع فجأة واخذت التصفيات تمتد اليهم من كل جانب . فضمن موجات الاجتثاث والقضاء على مؤيدي النظام السابق ومعاقبة العاملين ضمن مؤسساته الخاصة خصوصا ممن كانوا يعملون في هيئة التصنيع العسكري ومؤسسات البحث العلمي جرى تصفية الالاف من العناصر الكفوءة من علماء وخبراء ومهندسين واطباء عن طريق الاغتيال والسجن والفصل من العمل والتشريد , حتى وصل الامر بالكفوء لان يتخفى ويبتعد عن الانظار بقدر ما يستطيع خشية ان يقضى عليه . وبعد عام 2006 اخذت التصفيات وجها اخرا جديدا في شكله لكنه لا يختلف في المضمون والهدف عن سابقاته الا وهو التصفية الجسدية ضمن موجات التطهير المذهبي والطائفي حيث قتل وخطف المئات من اصحاب الكفاءات لمجرد الاختلاف في الدين او المذهب والمعتقد . لقد كانت اعمال التقتيل والانتقام من الكفاءات العلمية من قبل الاطراف المتصارعة فظيعة وغير مبررة ولا تنم الا عن وجود مشاعر حقد هائلة تجاههم انفلتت من عقالها ولم تجد لها اي ضابط يسيطر عليها . فبخلاف أعمال القتل التي كان يتعرض لها المواطنين العادين نجد ان اصحاب الكفاءات كانوا يعذبون بشكل قاسي قبل قتلهم ويمثل بجثثهم حتى بعد القتل . اما الفديات التي طولبت لقاء اطلاق سراحهم بعد خطفهم فقد كانت هائلة بالمقاييس المحلية , كما ان معظم افراد هذه الفئة لم ينجون من القتل بعد الاختطاف بالرغم من قيام ذويهم بدفع الفديات المطلوبة . لقد ادت هذه الحوادث الى تصفية المئات من العناصر الكفوءة , كما انها ادت في خاتمة المطاف الى هجرة من تبقى منهم الى دول الجوار فرارا من المصير الذي يتربص بهم فيما لو بقوا في البلد .
بعد هذا الحال المزري لم يجد اصحاب الكفاءات العراقية من ملاذ متوفر لهم غير ترك البلد الى دول الجوار العربي . وبالفعل لجأ الالوف من اصحاب الكفاءات ممن قضوا حياتهم كرؤساء جامعات وعمداء كليات ورؤساء اقسام واساتذة واطباء ومهندسين لامعين الى سوريا والاردن تاركين اعمالهم ودورهم وممتلكاتهم خلفهم في الوطن . وقد افلح بعضهم في الوصول الى مصر بينما نجح البعض الاخر خصوصا هؤلاء الذي كانوا متنفذين ايام النظام السابق في الوصول الى اليمن وقطر والامارات . وبدل ان تفتح دول الجوار أذرعها للاستفادة من تلك الكفاءات عن طريق توفير التسهيلات لهم ومنحهم اقامات رسمية وتصاريح عمل وحتى اغرائهم بالبقاء في اراضيها فقد جرى التضييق بشدة عليهم وعلى تحركاتهم . فقد منع معظمهم من العمل في تلك الدول لاسباب مختلفة مما تسبب في معاناة كثيرة وضيق شديد لهم , كما انهم حرموا من فرص السفر العادي الى دول اخرى بسبب عدم شرعية اقاماتهم مما منعهم من الاشتراك في المؤتمرات العلمية الدولية والبقاء على تواصل مع تخصصاتهم العلمية . وبسبب هذه الاوضاع فقد اضطر اصحاب الكفاءات العراقية في الاخر الى طرق الباب الوحيد المتاح امامهم وهو باب المفوضية العليا لرعاية اللاجئين التابعة لمنظمة الامم المتحدة وتقديم طلبات لجوء متأملين في الحصول على ملاذ أمن يليق بهم من جهة ولضمان مستقبل اولادهم وعوائلهم التي تشردت معهم من جهة اخرى . كان معظم هؤلاء يحلمون بالسفر الى هولندا والسويد والمانيا بعد ما سمعوه من زملائهم السابقين عن توفر الامكانيات الرائعة والتسهيلات المغرية التي هي اشبه بـ (مزارع لتسمين العجول) . لكن هذه الدول عزفت عن قبول اللاجئين لاسباب كثيرة لا مجال للتطرق اليها هنا . لم يتبقى امام هؤلاء غير الانخراط بالبرنامج الامريكي الوحيد المتاح لقبول اللاجئين بأعداد كبيرة , بالاضافة الى براهج لقبول اعداد صغيرة بضعة عشرات بالسنة متاحة من قبل كندا وبريطانيا . وبعد فترات انتظار متباينة وصلت الى عدة سنوات ذاق فيها اصحاب الكفاءات المر في دول جوار العراق بسبب العوز والحاجة ومسائلات دوائر المخابرات المستمر لهم حصل الكثير منهم على فرص اللجوء اميركا .
غادر اصحاب الكفاءات دول الجوار العراقي التي لاذوا بها مؤقتا الى اميركا وكندا وهم يحلمون بالحياة الجديدة والعمل والثروة متأملين بأن تنتهي مشاكلهم التي عانوا منها لسنوات بعد وصولهم الى دول اللجوء . لكن تلك الاحلام تبخرت سريعا بسبب الصعوبات التي عانوها بعد وصولهم . فبالنسبة للتسهيلات المقدمة وجد هؤلاء بانها صغيرة المقدار وقصيرة الامد , كما ان المنظمات التي ترعى اللاجئين في تلك الدول ينتشر فيها الفساد بشكل كبير حيث تتبخر معظم المعونات التي توفرها الدولة والمانحين في االاجراءات الفاسدة التي تتبعها تلك المنظمات . كما ان اصحاب الكفاءات واجهوا بعض الصعوبات في معادلة شهاداتهم , خصوصا وان معظم تلك الشهادات حصل عليها من دول اخرى وفي اوقات اصبحت بعيدة . ان هذه الصعوبات الفنية بالاضافة الى صعوبات اللغة ومشاكل الاندماج بالمجتمع وتزامن وقت وصولهم بازمة الكساد العالمي بعد عام 2008 جعل من فرص هؤلاء في الحصول على وظائف لائقة وبنفس اختصاصاتهم صعبة للغاية ان لم تكن مستحيلة . لقد كان معظم افراد هذه الشريحة يطالبون المفوضية العليا للاجئين بتسفيرهم الى نفس الدول التي تخرجوا منها لانهم يعرفونها ولن يواجهوا مشكلة في معادلة شهاداتهم فيها , لكن المفوضية رفضت ذلك بحجة عدم توفر برامج لقبول اللاجئين في تلك الدول . بذلك فقد ساهمت المفوضية بقصد او بدون قصد في ايقاع الضرر بهذه الشريحة عن طريق ارسالهم الى دول اخرى لا يعرفون عنها شيئا . ولاجل تدبير لقمة العيش , فقد اضطر الكثير من هؤلاء الى الانخراط في اعمال لا علاقة لها باختصاصاتهم ولا تتناسب مع مستوياتهم كالعمل كسواق تاكسي او حراس ليليين او بائعين وغير ذلك . لقد أخذ هؤلاء يكافحون ويناضلون ويعملون لساعات طويلة بالرغم من تقدم اعمارهم لغرض اعالة عوائلهم واتاحة الفرصة لابنائهم لاكمال تعليمهم . ومع ان العمل شرف ولا شيء عيب فيه , لكننا نعود مرة اخرى الى نفس النقطة وهي ان هؤلاء الكفاءات خسروا امكانياتهم وفرصهم في الانجاز والعطاء اللامع والمتميز وتحولوا مرة اخرى الى مجرد ألات تعمل لكي تعيش وتوفر السكن والطعام لعوائلهم , لا يختلفون بشيء عن الحمير التي تعمل طيلة النهار لتعود الى حظائرها في المساء لتأكل وتنام . سبب هذا الحال صدمة شديدة لهؤلاء وقد اصيب الكثير منهم بحالات من الاكتئاب والانطواء , الا انه لم يكن هناك من خيار امامهم سوى الرضا بالمصير الذي أنتهوا اليه خصوصا مع تضاؤل فرص عودتهم الى الوطن بسبب استمرار حالة فقدان الامن وعدم استقرار الأوضاع السياسية وبقاء أستهداف اصحاب الكفاءات فيه على حاله تقريبا .
اما احوال اصحاب الكفاءات الذين قاوموا الظروف وظلوا بالعراق فليست بأحسن حال من هؤلاء . فان النفس الطائفي الذي انتشر بالدولة افقد الكثير منهم اعمالهم اما بالاقالة او بالاحالة على التقاعد المبكر او الاقصاء من الوظيفة بمختلف الذرائع والحجج كالاجتثاث وغير ذلك . كما ان سياسات الحكومة بينت بشكل واضح بان الدولة لا تسعى الى احتضان هذه الشريحة ولا رعايتها لان معظم افرادها محسوبين على النظام السابق . لقد سبق ان بينا اعلاه بان الكثير من اصحاب الكفاءات كانوا مضطرين للانضمام الى حزب السلطة لضمان فرصهم بالدراسة وارتقائهم بالاعمال , لكنهم اصبحوا فيما بعد مستهدفين ومحاربين نتيجة لذلك الاضطرار . فبعد احدى موجات الاقصاء الجماعي لاساتذة الجامعات التي حدثت قبل مدة ليست بعيدة قال وزير التعليم العالي بان العراق مستعد لاستقدام الف استاذ جامعي مقابل كل استاذ عراقي يقال نتيجة لاجتثاثه بسبب ارتباطه بالنظام السابق .
يبدوا جليا مما تقدم بان الاوضاع التي احاطت بالكفاءات العراقية , سواء حالهم في العراق او المصير السيء الذي انتهوا اليه في دول الجوار العربي ودول اللجوء كان حلقة اساسية من مخطط كبير يستهدف الدولة العراقية . لقد ركز هذا المخطط على النيل من هذه الشريحة بشكل خاص عن طريق عدة وسائل ابتدأت بالمحاربة والتضييق والتهميش في الوطن ثم حملات القتل والتشريد واخيرا التضييع في الدول الأخرى . ان من الاكيد بان ما جرى لهذه الشريحة لم يكن محض صدفة او بسبب طبيعة الاوضاع التي مرت بالبلد فحسب بل كان موضوعا بدقة ونفذ باتقان بالغ . لقد اعد مخطط تدمير هذه الشريحة بعناية فائقة لغرض القضاء عليها وانهاء اي فرصة لكي يستفيد منها العراق مرة اخرى . بل ان هذا المخطط وضع بشكل يضمن حرمان حتى دول الجوار العربي من امكانية الاستفادة من هذه العناصر عن طريق تطويق اي فرصة لاستقرارهم في تلك الدول وبالتالي اجبارهم على الهجرة الى دول اخرى . وطبعا كانت النتيجة هي حرمان العراق نهائيا من كفاءات علمية وفنية صرف عليها وعلى اعدادها ثروات هائلة . وبعد الفراغ الذي حصل بسبب غياب هذه الشريحة سادت في المجتمع العراقي كفاءات كاذبة ذات شهادات مشكوك بها وبمصادرها , وما حال الدولة الان من تخلف وتخبط وضياع الا مثال لما يمكن ان تصنعه وتحققه تلك الكفاءات المزيفة . ان من الواضح بان ما وضع للعراق هو اكبر بكثير مما يمكن تصوره , وان ما جرى فيه من خراب لا يمكن اصلاحه ابدا , وما فقده من ثروات ومن بينها ضياع كفاءاته الى الابد هو شيء لا يمكن تعويضه ابدا .
ولكي نعرف السبب في هذه المعاداة لابد لنا ان نعرف ماهي الكفاءة ومن هو الكفوء . يختلف الكثير منا في فهمهم لمعنى الكفاءة , فالغالبية منا يربطون مفهوم وتعريف الكفاءة بحملة الشهادات العليا وهذا فيه خطأ كبير . من الطبيعي بان يكون من حصل على شهادة عليا كفوء في مجال تخصصه بشكل ما لكي يستطيع ان ينال تلك الشهادة , لكنه ليس بالضرورة ان يكون متميزا في اختصاصه ومبدعا في عطائه وانجازه . كما ان هناك الكثيرين من الاشخاص ممن هم مبدعين ولامعين في عملهم وتخصصهم بالرغم من عدم نيلهم لشهادة عليا , او حتى شهادة اولية في بعض الاحيان . من هنا تبرز الحاجة الى فك الاتباط بين تعريف ومفهوم الكفاءة من مسألة الشهادة العلمية وربطه بطريقة ما بألمعية الشخص وتميزه في المجال الذي يعمل فيه . وبالرغم من كون هذا المفهوم منصف الى حد كبير في تعريف الكفاءة وتحديد وتشخيص الكفوء الحقيقي الا ان فيه خطر كبير في نفس الوقت , لان اعتماده يمكن ان يخرج الامر من دائرة الشهادة التي يسهل تعريفها وتحديد شخصيتها الى دائرة الابداع والألمعية التي يصعب وضع مؤشرات محددة لها . ان هذا التغير بالمفهوم اذا ما اعتمد سيسهل الى حد كبير من امكانية خروج التعريف والتشخيص عن هدفه الحقيقي وتلبيس اشخاص غير كفوئين رداء الكفاءة دون وجه حق . لذلك فان الربط بين الاثنين , اي الشهادة والألمعية يبقى مطلوبا لانه أئمن اسلوب يمكن ان يتوفر لتعريف الكفاءة وتحديد الكفوء . وبهذه الطريقة يكون الكفوء هو كل شخص يحمل شهادة عليا يقدم انجازات مبدعة في مجال تخصصه بما يدفع هذا الاختصاص الى الامام ويعزز من تطوره وتقدمه وبما يقدم ايضا خدمة ملموسة للمجتمع .
يعني ما تقدم بان الكفوء هو الشخص الوحيد الذي يعول عليه في تقدم البلد وتطوره العلمي والاجتماعي ورقيه الحضاري . ويعني هذا ايضا بان البلد الذي يسعى نحو هذا يتحتم عليه ان يرعى هذه الكفاءات ويزيد من اعدادها ويوفر لها الفرص والعيش الكريم لانها ستعطيه بالمقابل الكثير . غير اننا لو تتبعنا تاريخ هذه الشريحة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وعلى مدى العهود المتتابعة التي مرت بها لوجدناه مختلف كليا عن ما ينبغي ن يكون عليه . لقد ظل الكفوء مهمشا في اغلب العهود , وظلت الكفاءة تقتل اينما كان ذلك ممكنا . وعدا عن حالات استهداف العناصر الكفوءة من قبل فئات من خارج وسطها الا ان هناك حالات استهداف داخلية برزت من نفس وسطها . ففي خلال عقد السبعينات واجه اصحاب الكفاءات من خريجي الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية حملة شديدة من قبل اقرانهم من خريجي دول اوربا الغربية واميركا عن طريق اتهامهم اما بالشيوعية او بالقصور العلمي او باستعمالهم لطرق فاسدة لنيلهم شهاداتهم العلمية . وقد ادى ذلك الى ابعاد وتهميش عدد كبير من هؤلاء مما اضطرهم الى ترك العراق والعودة الى الدول التي تخرجوا منها . من جانب اخر فان العراقيين حرموا تقريبا من فرص الدراسة في الخارج اثناء عقدي الثمانينات والتسعينات مما ابقى الدراسة داخل العراق هو المجال الوحيد المتوفر لاكمال الدراسة العليا للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه . ومع ان الدراسة العليا في العراق لم تكن قاصرة الا ان الذين اكملوها في الوطن ظلوا يشعرون بالنقص تجاه اقرانهم القدماء الذين اكملوها بالخارج بسبب عوامل التمييز التي اتبعها مرة اخرى هؤلاء الاقران بنفس الطريقة التي اتبعوها مع خريجي الدول الاشتراكية . وقد تحول هذا الشعور تدريجيا الى شعور دفين بالحقد والضغينة تجاههم , خصوصا وان المناصب الرئيسية والمهمة في الجامعات ومؤسسات البحث العلمي ظلت تقريبا من حصة القدماء الذين احتكروها على اعتبار انهم من مرتبة اعلى . لقد كان هذا التمايز مدعاة الى قيام حرب غير معلنة بين الفئتين من العناصر الكفوءة استثمر فيها بالذات الجانب السياسي لتصفية الاخر على قدر ما كان ذلك ممكنا . وكصور لبعض مظاهر هذا الصراع فقد حدثت الكثير من اعمال التصفية التي تعرض لها اصحاب الكفاءات خلال عقود حكم النظام السابق عن طريق البلاغات الكيدية وحياكة الدسائس والمؤمرات والتي ادت الى ضياع كفاءات عراقية كثيرة هي من المع ما انجبه البلد .
كان النظام السابق يرعى في الكثير من اجرائاته وقوانينه اصحاب الكفاءات , لسي حبا بهؤلاء أو لسواد عيونهم لكن لحاجته الماسة اليهم في تنفيذ برامجه العلمية والتطويرية خصوصا التسليحية منها . وقد كان النظام مصرا على استقطاب العناصر الكفوءة الى صفوفه من خلال ضمهم الى حزب السلطة بمختلف الوسائل , وقد استخدم شتى انواع الضغوط لتحقيق ذلك خصوصا في حصر فرص اكمال الدراسات العليا بالبعثيين , او في عدم السماح لاي شخص يمتهن مهنة التدريس مالم يكن منتميا لهذا الحزب . وقد اضطر الكثير من االشبان الطموحين الى مسايرة هذا الوضع والانضمام الى الحزب الحاكم ليس لأيمانهم بفكره بل لان ذلك كان الطريق الوحيد المتاح امامهم لاستثمار قابلياتهم ومواهبهم ونيلهم لفرصة لاكمال دراستهم العليا . وللاسف فقد دفع هؤلاء فيما بعد ثمنا باهضا لما اضطروا على سلوكه وحوسب الكثير منهم دون مراعاة لهذا الجانب الاضطراري . وبالرغم من كل مظاهر الرعاية التي خص بها ذلك النظام اصحاب الكفاءات الا ان ذلك لم يمنع من قيامه بنفسه في تصفية عدد ليس بقليل منهم وبمختلف الطرق بعد امتصاص جهودهم واستنزاف عطائاتهم , خصوصا العناصر التي حققت انجازات هامة وصعدت الى مواقع متقدمة في الدولة . وقد كان استهداف العناصر الكفوءة من قبل النظام الحاكم يحدث لاسباب مختلفة , فهو اما حدث بسبب ظهور حالات من الغرور على قسم من هؤلاء بعد نجاحهم في تحقيق ابداعات مهمة , او تحوطا من هربهم الى الخارج وكشفهم للبرامج التسليحية التي يقوم بها النظام , او بسبب مشاعر الحقد والحسد التي تتولد تجاههم لدى بعض النفوس المريضة من الفئات المتنفذة في ذلك النظام .
وخلال سنوات الحصار الاقتصادي على العراق بين عامي 1990-2003 وما صاحبها من ضيق وعوز شديدين اوصلت مقدار ما يتقاضاه الاستاذ في الجامعة الى ما لا يزيد عن بضعة دولارات بالشهر اخذ العديد من هؤلاء الاساتذة يفكرون بالسفر الى الخارج والهجرة الى الدول التي تقبل هجرة العراقيين اليها . كانت اهم الدول التي تقبل طلبات الهجرة هي نيوزلندة وكندا , اما الدول التي تقبل طلبات اللجوء فكانت هولندا والسويد والمانيا . لم يكن سلوك هذا الطريق سهلا , اذ كان يتطلب نفقات هائلة في قياسات ذلك الزمان , كما انه كان يحتاج الى السفر الى دول الجوار كخطوة اولى وهو بحد ذاته لم يكن امرا سهلا . لكن مع ذلك فقد قرر البعض منهم المجازفة والتضحية بما جنوه طيلة العمر وسلوك هذا الطريق . سافر هؤلاء اولا الى دول مجاورة بحجج مختلفة كالعلاج وغيرها , او من خلال استغلال الايفادت الحكومية الى الخارج . بعد ذلك اتجهوا الى السفر الى احدى الدول التي تقبل العراقيين سواء بوسائل شرعية أو بطرق غير شرعية . بالنسبة للطرق الشرعية فقد قدم بعض اصحاب الكفاءات طلبات هجرة الى كندا ونيولندة من خلال سفارات تلك الدول في سوريا والاردن . اما الطرق الغير شرعية فقد تضمنت دفع اموال طائلة الى بعض المهربين لايصال اللاجئين عن طريق التسلل الى المانيا او هولندا والسويد . وقد فشلت الكثير من محاولات التهريب وقبض على المتسللين واعيدوا الى العراق مما اضاع على هؤلاء كل تحويشات العمر بعد ان فقدوا مساكنهم واعمالهم . وقد ادى هذا ايضا الى محاسبة هؤلاء عن محاولاتهم في السفر الى الخارج وتركهم لاعمالهم ووظائفهم وزج بعضهم في السجون باحكام ثقيلة . كما ان قسم اخر فقدوا حياتهم وحياة افراد اسرهم نتيجة لغرق القوارب التي كانت تقلهم والتي كان يستأجرها المهربين لنقلهم الى سواحل الدول الاوربية . مع كل هذه المصاعب الجمة والقاسية نجح عدد غير قليل من اصحاب الكفاءات بالوصول الى المانيا وهولنده والسويد , وهناك تخلصوا من جوازاتهم وتقدموا بطلبات لجوء الى تلك الدول .
كانت قوانين الهجرة بالدول الاوربية سمحة وشديدة الانسانية في اجرائاتها مما يتيح فرص لجوء لا يحلم بها الانسان . فبعد فترات قليلة من البقاء في معسكرات اللجوء ينقل هؤلاء الى السكن في شقق مريحة وتصرف لهم رواتب مجزية ويوفر لهم ضمان صحي واجتماعي ويسجل اولادهم في المدارس وتوفر لهم معونات غذائية . كان هذا الحال اشبه بالجنة اذا ما قورن بالحال الذي كان عليه هؤلاء في بلدهم العراق . غير ان اصحاب الكفاءات واجهوا معضلة كبيرة للغاية هي عدم معرفتهم للغات البلدان التي منحتهم فرص اللجوء . لذلك لم يسهل عليهم الحصول على اعمال تشابه اعمالهم ككفاءات علمية حين كانوا في العراق . ونتيجة لهذا لم يكن امامهم من خيار غير الانخراط في اعمال لا تشابه اعمالهم السابقة او لاتتناسب مع مكانتهم في المجتمع . وبالفعل انخرط بعض هؤلاء في مثل تلك الاعمال لمجرد ان لا يبقوا عاطلين , لكن القسم الاعظم منهم فضل البقاء بدون عمل والاكتفاء بالمعونات التي توفرها الدولة والتي كانت اكثر من كافية , بل مترفة اذا ما قورنت باحوال امثالهم الذين ظلو بالعراق . وبسبب هذا الكرم ومتاعب اللغة وصعوبة الحصول على اعمال تحول اصحاب الكفاءات العراقية الى عطالة بطالة يعيشون فقط لكي يأكلون ويشربون دون انجاز او عطاء لا لانفسهم ولا لغيرهم . قد يبدوا انتقاد هذا الحال اشبه بالبطر , لكنه في الواقع من اسوأ ما يمكن ان يصبح عليه الانسان الكفوء والمبدع لانه لا يختلف عن القتل بشيء فهو بالنهاية سيحطم الكفاءة ويحول صاحبها الى حيوان يعيش ليأكل فقط . وسواء ان كان هذا الحال مقصودا او غير مقصود , فان النتيجة كانت قتل الكفاءة وتدميرها وتجميد من يحملها .
ان ما حصل للكفاءات العراقية خلال سنوات الحصار قبل عام 2003 , سواء هؤلاء الذين ظلوا بالعراق او الذين هاجروا منه يمكن ان يعتبر جزء من حملة التدمير وحلقة من حلقات الحرب المشنة ضدهم . ومع ان أستهداف العناصر الكفوءة في المجتمع العراقي كان يجري في كل الازمنة والعهود تقريبا , الاان ما حدث بعد نيسان من عام 2003 كان مختلفا تماما عن ما كان يجري قبل هذا التاريخ . فبينما كانت جميع الحملات التي تشن على تلك العناصر قبل الاحتلال مستترة وخفية ومحدودة الى حد ما , فان الحال تغير تماما بعد ذلك . فبعد هذا التاريخ كشفت تلك الحملات عن وجهها الحقيقي واسفرت عن نفسها بشكل واضح وجلي , فقد حدثت ثورة عارمة ضد هذه الشريحة وانطلقت مشاعر الحقد تجاههم من القمقم الذي كانت محبوسة فيه وبشكل لم يجري مثيله في اي مكان اخر بالعالم . فعلى حين غرة وجد اصحاب الكفاءات انفسهم معرضين للاستهداف بشكل مباشر من قبل عشرات القوى التي تنفذت في المجتمع فجأة واخذت التصفيات تمتد اليهم من كل جانب . فضمن موجات الاجتثاث والقضاء على مؤيدي النظام السابق ومعاقبة العاملين ضمن مؤسساته الخاصة خصوصا ممن كانوا يعملون في هيئة التصنيع العسكري ومؤسسات البحث العلمي جرى تصفية الالاف من العناصر الكفوءة من علماء وخبراء ومهندسين واطباء عن طريق الاغتيال والسجن والفصل من العمل والتشريد , حتى وصل الامر بالكفوء لان يتخفى ويبتعد عن الانظار بقدر ما يستطيع خشية ان يقضى عليه . وبعد عام 2006 اخذت التصفيات وجها اخرا جديدا في شكله لكنه لا يختلف في المضمون والهدف عن سابقاته الا وهو التصفية الجسدية ضمن موجات التطهير المذهبي والطائفي حيث قتل وخطف المئات من اصحاب الكفاءات لمجرد الاختلاف في الدين او المذهب والمعتقد . لقد كانت اعمال التقتيل والانتقام من الكفاءات العلمية من قبل الاطراف المتصارعة فظيعة وغير مبررة ولا تنم الا عن وجود مشاعر حقد هائلة تجاههم انفلتت من عقالها ولم تجد لها اي ضابط يسيطر عليها . فبخلاف أعمال القتل التي كان يتعرض لها المواطنين العادين نجد ان اصحاب الكفاءات كانوا يعذبون بشكل قاسي قبل قتلهم ويمثل بجثثهم حتى بعد القتل . اما الفديات التي طولبت لقاء اطلاق سراحهم بعد خطفهم فقد كانت هائلة بالمقاييس المحلية , كما ان معظم افراد هذه الفئة لم ينجون من القتل بعد الاختطاف بالرغم من قيام ذويهم بدفع الفديات المطلوبة . لقد ادت هذه الحوادث الى تصفية المئات من العناصر الكفوءة , كما انها ادت في خاتمة المطاف الى هجرة من تبقى منهم الى دول الجوار فرارا من المصير الذي يتربص بهم فيما لو بقوا في البلد .
بعد هذا الحال المزري لم يجد اصحاب الكفاءات العراقية من ملاذ متوفر لهم غير ترك البلد الى دول الجوار العربي . وبالفعل لجأ الالوف من اصحاب الكفاءات ممن قضوا حياتهم كرؤساء جامعات وعمداء كليات ورؤساء اقسام واساتذة واطباء ومهندسين لامعين الى سوريا والاردن تاركين اعمالهم ودورهم وممتلكاتهم خلفهم في الوطن . وقد افلح بعضهم في الوصول الى مصر بينما نجح البعض الاخر خصوصا هؤلاء الذي كانوا متنفذين ايام النظام السابق في الوصول الى اليمن وقطر والامارات . وبدل ان تفتح دول الجوار أذرعها للاستفادة من تلك الكفاءات عن طريق توفير التسهيلات لهم ومنحهم اقامات رسمية وتصاريح عمل وحتى اغرائهم بالبقاء في اراضيها فقد جرى التضييق بشدة عليهم وعلى تحركاتهم . فقد منع معظمهم من العمل في تلك الدول لاسباب مختلفة مما تسبب في معاناة كثيرة وضيق شديد لهم , كما انهم حرموا من فرص السفر العادي الى دول اخرى بسبب عدم شرعية اقاماتهم مما منعهم من الاشتراك في المؤتمرات العلمية الدولية والبقاء على تواصل مع تخصصاتهم العلمية . وبسبب هذه الاوضاع فقد اضطر اصحاب الكفاءات العراقية في الاخر الى طرق الباب الوحيد المتاح امامهم وهو باب المفوضية العليا لرعاية اللاجئين التابعة لمنظمة الامم المتحدة وتقديم طلبات لجوء متأملين في الحصول على ملاذ أمن يليق بهم من جهة ولضمان مستقبل اولادهم وعوائلهم التي تشردت معهم من جهة اخرى . كان معظم هؤلاء يحلمون بالسفر الى هولندا والسويد والمانيا بعد ما سمعوه من زملائهم السابقين عن توفر الامكانيات الرائعة والتسهيلات المغرية التي هي اشبه بـ (مزارع لتسمين العجول) . لكن هذه الدول عزفت عن قبول اللاجئين لاسباب كثيرة لا مجال للتطرق اليها هنا . لم يتبقى امام هؤلاء غير الانخراط بالبرنامج الامريكي الوحيد المتاح لقبول اللاجئين بأعداد كبيرة , بالاضافة الى براهج لقبول اعداد صغيرة بضعة عشرات بالسنة متاحة من قبل كندا وبريطانيا . وبعد فترات انتظار متباينة وصلت الى عدة سنوات ذاق فيها اصحاب الكفاءات المر في دول جوار العراق بسبب العوز والحاجة ومسائلات دوائر المخابرات المستمر لهم حصل الكثير منهم على فرص اللجوء اميركا .
غادر اصحاب الكفاءات دول الجوار العراقي التي لاذوا بها مؤقتا الى اميركا وكندا وهم يحلمون بالحياة الجديدة والعمل والثروة متأملين بأن تنتهي مشاكلهم التي عانوا منها لسنوات بعد وصولهم الى دول اللجوء . لكن تلك الاحلام تبخرت سريعا بسبب الصعوبات التي عانوها بعد وصولهم . فبالنسبة للتسهيلات المقدمة وجد هؤلاء بانها صغيرة المقدار وقصيرة الامد , كما ان المنظمات التي ترعى اللاجئين في تلك الدول ينتشر فيها الفساد بشكل كبير حيث تتبخر معظم المعونات التي توفرها الدولة والمانحين في االاجراءات الفاسدة التي تتبعها تلك المنظمات . كما ان اصحاب الكفاءات واجهوا بعض الصعوبات في معادلة شهاداتهم , خصوصا وان معظم تلك الشهادات حصل عليها من دول اخرى وفي اوقات اصبحت بعيدة . ان هذه الصعوبات الفنية بالاضافة الى صعوبات اللغة ومشاكل الاندماج بالمجتمع وتزامن وقت وصولهم بازمة الكساد العالمي بعد عام 2008 جعل من فرص هؤلاء في الحصول على وظائف لائقة وبنفس اختصاصاتهم صعبة للغاية ان لم تكن مستحيلة . لقد كان معظم افراد هذه الشريحة يطالبون المفوضية العليا للاجئين بتسفيرهم الى نفس الدول التي تخرجوا منها لانهم يعرفونها ولن يواجهوا مشكلة في معادلة شهاداتهم فيها , لكن المفوضية رفضت ذلك بحجة عدم توفر برامج لقبول اللاجئين في تلك الدول . بذلك فقد ساهمت المفوضية بقصد او بدون قصد في ايقاع الضرر بهذه الشريحة عن طريق ارسالهم الى دول اخرى لا يعرفون عنها شيئا . ولاجل تدبير لقمة العيش , فقد اضطر الكثير من هؤلاء الى الانخراط في اعمال لا علاقة لها باختصاصاتهم ولا تتناسب مع مستوياتهم كالعمل كسواق تاكسي او حراس ليليين او بائعين وغير ذلك . لقد أخذ هؤلاء يكافحون ويناضلون ويعملون لساعات طويلة بالرغم من تقدم اعمارهم لغرض اعالة عوائلهم واتاحة الفرصة لابنائهم لاكمال تعليمهم . ومع ان العمل شرف ولا شيء عيب فيه , لكننا نعود مرة اخرى الى نفس النقطة وهي ان هؤلاء الكفاءات خسروا امكانياتهم وفرصهم في الانجاز والعطاء اللامع والمتميز وتحولوا مرة اخرى الى مجرد ألات تعمل لكي تعيش وتوفر السكن والطعام لعوائلهم , لا يختلفون بشيء عن الحمير التي تعمل طيلة النهار لتعود الى حظائرها في المساء لتأكل وتنام . سبب هذا الحال صدمة شديدة لهؤلاء وقد اصيب الكثير منهم بحالات من الاكتئاب والانطواء , الا انه لم يكن هناك من خيار امامهم سوى الرضا بالمصير الذي أنتهوا اليه خصوصا مع تضاؤل فرص عودتهم الى الوطن بسبب استمرار حالة فقدان الامن وعدم استقرار الأوضاع السياسية وبقاء أستهداف اصحاب الكفاءات فيه على حاله تقريبا .
اما احوال اصحاب الكفاءات الذين قاوموا الظروف وظلوا بالعراق فليست بأحسن حال من هؤلاء . فان النفس الطائفي الذي انتشر بالدولة افقد الكثير منهم اعمالهم اما بالاقالة او بالاحالة على التقاعد المبكر او الاقصاء من الوظيفة بمختلف الذرائع والحجج كالاجتثاث وغير ذلك . كما ان سياسات الحكومة بينت بشكل واضح بان الدولة لا تسعى الى احتضان هذه الشريحة ولا رعايتها لان معظم افرادها محسوبين على النظام السابق . لقد سبق ان بينا اعلاه بان الكثير من اصحاب الكفاءات كانوا مضطرين للانضمام الى حزب السلطة لضمان فرصهم بالدراسة وارتقائهم بالاعمال , لكنهم اصبحوا فيما بعد مستهدفين ومحاربين نتيجة لذلك الاضطرار . فبعد احدى موجات الاقصاء الجماعي لاساتذة الجامعات التي حدثت قبل مدة ليست بعيدة قال وزير التعليم العالي بان العراق مستعد لاستقدام الف استاذ جامعي مقابل كل استاذ عراقي يقال نتيجة لاجتثاثه بسبب ارتباطه بالنظام السابق .
يبدوا جليا مما تقدم بان الاوضاع التي احاطت بالكفاءات العراقية , سواء حالهم في العراق او المصير السيء الذي انتهوا اليه في دول الجوار العربي ودول اللجوء كان حلقة اساسية من مخطط كبير يستهدف الدولة العراقية . لقد ركز هذا المخطط على النيل من هذه الشريحة بشكل خاص عن طريق عدة وسائل ابتدأت بالمحاربة والتضييق والتهميش في الوطن ثم حملات القتل والتشريد واخيرا التضييع في الدول الأخرى . ان من الاكيد بان ما جرى لهذه الشريحة لم يكن محض صدفة او بسبب طبيعة الاوضاع التي مرت بالبلد فحسب بل كان موضوعا بدقة ونفذ باتقان بالغ . لقد اعد مخطط تدمير هذه الشريحة بعناية فائقة لغرض القضاء عليها وانهاء اي فرصة لكي يستفيد منها العراق مرة اخرى . بل ان هذا المخطط وضع بشكل يضمن حرمان حتى دول الجوار العربي من امكانية الاستفادة من هذه العناصر عن طريق تطويق اي فرصة لاستقرارهم في تلك الدول وبالتالي اجبارهم على الهجرة الى دول اخرى . وطبعا كانت النتيجة هي حرمان العراق نهائيا من كفاءات علمية وفنية صرف عليها وعلى اعدادها ثروات هائلة . وبعد الفراغ الذي حصل بسبب غياب هذه الشريحة سادت في المجتمع العراقي كفاءات كاذبة ذات شهادات مشكوك بها وبمصادرها , وما حال الدولة الان من تخلف وتخبط وضياع الا مثال لما يمكن ان تصنعه وتحققه تلك الكفاءات المزيفة . ان من الواضح بان ما وضع للعراق هو اكبر بكثير مما يمكن تصوره , وان ما جرى فيه من خراب لا يمكن اصلاحه ابدا , وما فقده من ثروات ومن بينها ضياع كفاءاته الى الابد هو شيء لا يمكن تعويضه ابدا .