اخر المواضيع في المدونة

الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

تصفية العائلة المالكة ولعنة الدم التي اصابت العراق - مقال

في 14 تموز قبل اربعة وخمسون عاما حصلت في العراق مذبحة لا مبرر لها ظل البلد يدفع ثمنها بطوفان من الدم أخذ ينهمر بشكل انهار وسيول لها اول وليس لها اخر . ففي ذلك اليوم التموزي الساخن قامت مجموعة من الضباط وبدفع من جهات لم تعد خافية على احد بتغيير نظام الحكم واغتصاب السلطة بالقوة لتشيع في هذا البلد بعدها ثقافة اغتصاب السلطة بالطرق الغير شرعية والقتل خارج سلطة القانون والتمثيل بالجثث بطرق لم تمارسها ادنى الاقوام حضارة وثقافة وانتشار ظواهر السلب والنهب والتدمير بشكل يصعب فهمه وتبريره . لا يمكن باي شكل من الاشكال تبرير ماحدث في ذلك اليوم بالمفاهيم الثورية والوطنية التي ظلت جهات عديدة ولعقود من الزمن تحاول ان تربطها بالاحداث لتعطيها نوع من الشرعية . الا ان اي شخص محايد يدرس ما حصل في ذلك اليوم لن يتوصل ابدا الى غير كونها جريمة بكل ما تعني كلمة الجريمة من صفات . كما ان التمثيل بالجثث بالطرق البشعة التي حصلت بعدها لا يمكن ان يحصل الا من اناس مرضى معجونة دمائهم بروح الجريمة التي لا يمكن ان تكون جزء من التصرفات الانسانية ابدا . ان عظمة الخالق وانتقام السماء لم يمهل ابدا كل من شارك بتلك الجريمة اذ لاحقتهم عدالة السماء فماتوا جميعا اعداما وقتلا وحرقا واغتيالا وانتحارا بشكل يجسد حقيقة (ان الله يمهل ولا يهمل) , وان القاتل مصيره القتل حتى ولو بعد حين .

كان الشخص الاول وراء ذلك العمل الشنيع هو النقيب (الرئيس) عبد الستار سبع العبوسي . ان الغريب جدا في هذا الامر هو ان النقيب العبوسي لم يكن من منتسبي اللواء العشرين الذي قام بالثورة ولا ضمن السرية التي هاجمت القصر الملكي ولا حتى من الضباط المبلغين بالثورة . صحيح انه كان منتميا الى تنظيم الضباط الاحرار , لكن المعروف بان معظم اعضاء هذا التنظيم لم يكونوا على علم بالثورة ولا من المشاركين بها . كان العبوسي امرا لدورة مشاة في مدرسة المشاة التي تقع في معسكر الوشاش والتي لا يبعد مقرها عن قصر الرحاب مسافة تزيد عن الكيلومتر الواحد . بعد صدور نداءات العقيد عبد السلام عارف الى المواطنين من الاذاعة لكي يهبوا للدفاع عن الثورة أثر الانباء التي وردت اليه بقرب نفاذ العتاد الموجود لدى السرية التي هاجمت القصر الملكي , تدخل القدر ولعب لعبته في مصادفة عجيبة حين قام النقيب العبوسي بجمع منتسبي دورته من الضباط والمراتب وخطب فيهم خطبة اثارت حماسهم لكي ينظموا الى الثوار ونجدتهم , كسروا بعدها ابواب مشجب المدرسة (وهذا اول عمل خارج عن القانون) واستخرجوا الاسلحة والعتاد الموجود في المدرسة ثم تحركوا الى قصر الرحاب لنصرة المهاجمين .

بعد وصول النقيب العبوسي الى الموقع واستطلاعه للموقف قام وفي حماس عجيب بنصب مدفع الهاون الذي جلبه معه على الرصيف المقابل للقصر ثم قام باطلاق ثلاث قنابل من بين الاربعة التي جلبها معه على القصر الملكي , اثنان على الطابق العلوي وواحدة على الطابق السفلي .


كان لهذه القنابل الاثر البالغ في تحطيم معنويات سرية الحرس الملكي المكلفة بالدفاع عن القصر والتي كان على أمرها العقيد المهزوز الشخصية طه البامرني والذي كان وجوده على رأس هذه القوة هو الاخر احد المصادفات العجيبة التي ساهمت في صنع تلك المأساة . بعد هذه الاطلاقات قامت سرية الحرس الملكي بالاستسلام للمهاجمين في خطوة تنم عن سوء تقدير للموقف وضعف في القدرة العسكرية حين اوحى البامرني الى عبد الاله بان الموقف خطير وميئوس منه . اشتد الرمي على القصر، وشعرت العائلة المالكة بحصار ينذر بالموت , فيما كان عبدالسلام عارف يذيع بيانات الثورة ويعلن مقتل العائلة المالكة ويدعو الناس للهجوم على معاقل النظام . اجتمع في الحجرة الخلفية للقصر والمجاورة للمطبخ افراد العائلة المالكة التي تتكون من الملك فيصل الثاني وخاله الامير عبد الاله وجدته الملكة نفيسة وخالته التي ربته الاميرة عابدية وبعض ضباط سرية الحرس الملكي وعلى راسهم المتسبب الثاني بما حصل في ذلك اليوم العقيد طه البامرني امر سرية الحرس الملكي . طلب الامير عبد الاله من العقيد البامرني مفاوضة المهاجمين وابلاغهم بان الموجودين في القصر على استعداد للتسليم , وطلب الامير من مرافقه بالذهاب الى المهاجمين بصحبة احد الضباط وابلاغهم باستعداد العائلة المالكة للاستسلام . توقف اطلاق النار من قبل سرية الحرس الملكي وذهب المرافق ومعه الضابط برسالة من الملك لكنهما لم يعودا ، واعتقد الموجودين في القصر بانهم اما قتلوا او اعتقلوا مما زاد في حيرتهم ويأسهم من الاوضاع . بعد ورود الانباء للمهاجمين باستعداد من في القصر للاستسلام اقتحم النقيب عبدالستار سبع العبوسي وثلة من القوات بهو القصر وتوجهوا الى الغرفة التي تجمع فيها افراد العائلة مع الملك مصوبين رشاشاتهم نحو الملك وعبد الاله وبقية افراد العائلة المالكة . وصاح النقيب عبد الستار العبوسي بوجه الملك : اطلعوا للخارج , فرد الملك عليه :
ـ يا أخي على ويش كل هذي الرشاشات ؟ شايفنا مسلحين ؟
لكن الضابط فتح الباب وهو يصيح بهم :
ـ اطلعوا للخارج .
ونظرا لان الجميع كانوا داخل القصر من الجهة الخلفية لذا كان اقرب مكان للخروج هو من باب المطبخ الذي يقع الى يسار قصر الرحاب . قبل الساعة الثامنة بقليل ، فتح باب المطبخ وتقدم الجميع نحو الباب وهبطوا الدرجات الثلاثة التي تقع بين الباب والارض يتقدمهم الملك فيصل الثاني وأمارات الرعب قد تجمدت على وجهه من هول الموقف رافعا يده مؤديا التحية العسكرية للضباط الموجودين أمامه ومغتصبا ابتسامة رقيقة تراقصت على شفتيه . كان الملك مرتديا ثوباً ذا كمين قصيرين وبنطالاً رمادي اللون ، وينتعل حذاءاً خفيفاً . وخلفه خرج الأمير عبدالإله مرتديا ثوباً وبنطالاً كذلك ووجهه مصفر حتى يكاد ان يكون ابيض ، وقد وضع يده اليسرى في جيب بنطاله أما يده اليمنى فكانت ترفع منديلا ابيض . زاحمت الملكة (نفيسة) ولدها الأمير (عبدالإله) على درج المطبخ وحاولت اللحاق بالملك حيث وقفت خلفه رافعة القرآن الكريم عالياً بيدها فوق رأسه وهي تصر بأسنانها على أطراف الشرشف الذي يستر جسمها وتقول للجنود (هذا مليككم ، هذا ابن نبيكم لا تقتلوه) . وخلفه تقدمت الأميرة (عابدية) التي ربت الملك بعد وفاة والدته الملكة عالية وهي تنتحب وتولول ، ثم الأميرة (هيام) زوجة الامير عبد الاله . ومن سوء حظ من كان في المطبخ ان اقتيدوا هم ايضا الى الخارج مع العائلة المالكة , لذلك خرج مع الجمع إحدى خادمات القصر المسماة (رازقية) ثم الطباخ التركي وخادم آخر ثم اثنان من جنود الحرس تركا بندقيتيهما في المطبخ قبل خروجهما . وفي الخارج تقدم معهم بعض ضباط سرية الحرس الملكي بينهم المقدم (محمد الشيخ لطيف) ، والملازم أول (ثامر خالد الحمدان) ، وفي نهاية الرتل تقدم معهم النقيب (ثابت يونس) . وفي الباب كان العقيد (طه البامرني) امر سرية الحرس الملكي ما زال يحاول أن يهدئ من هيجان الضباط المهاجمين ، وخاصة النقيب (مصطفى عبدالله) الذي كان يصرخ كالمجنون (اخرجوا أيها السفلة ، أيها الخونة ، أيها العبيد) . ومن سوء حظ العائلة المالكة والعراق كله ان يكون هذا العقيد المهزوز والجبان والذي لم يتردد في قول كلمة (سيدي) لاي ضابط من المهاجمين الذي لم تزد رتبة اعلاهم عن رتبة نقيب (رئيس) , في حين كان هو المسؤول عن حمايتهم وبالتالي حماية النظام كله .

تقدم النقيب ( مصطفى عبدالله) ، وصرخ فيهم أن يجتازوا ممراً من الشجيرات ينتهي إلى باحة خضراء صغيرة، بجانب شجرة توت ضخمة وسط الحديقة ، فاجتاز الجمع الممر ، ووقفوا بشكل نسق يتطلعون إلى أفواه رشاشات الضباط الموجهة نحوهم , وهنا انضم النقيب مصطفى عبد الله الى النصف الحلقة التي شكلها الضباط المهاجمين وبعض المراتب والجنود . كان نساق الضباط المهاجمين يتكون من : النقيب (مصطفى عبدالله) ، النقيب (سامي مجيد) ، النقيب (عبدالله الحديثي) ، النقيب (منذر سليم) ، النقيب (حميد السراج) ، الملازم أول (عبدالكريم رفعت) ، وعدد من الملازمين والمراتب . وكان يقف خلف هؤلاء الضباط عدد آخر من الضباط والجنود ، وقد انتشروا في الحديقة وخلف الأشجار ، وإلى خلف هؤلاء من اليمين واليسار كانت جموع اخرى من العساكر بالاضافة الى بعض الناس الذين تجمعوا بسبب نداءات عبد السلام عارف الذي كان يطلقها من الاذاعة .

مرت الدقائق وكلا الطرفين ينظران لبعضهما البعض لا يدرون ما سيحصل بعدها . وفي هذه الاثناء كان النقيب (عبد الستار سبع العبوسي) لا زال داخل قصر الرحاب ، وهنا يبدر سؤال مهم هو : ماذا كان يفعل في الفترة التي وقعت بين اصداره الامر للعائلة المالكة بالخروج من القصر وبين خروجه هو من الباب الامامي للقصر ؟ ان هذا السؤال جدير بان يفكر به لانه لم يخرج مع الباقين من باب المطبخ . ان الجواب يمكن ان يكون بانه ربما قد قام خلال هذهالفترة بجولة سريعة في غرف القصر للتأكد فيما اذا كان هناك احد اخر لا زال مختبئا , لكن هذا الجواب ضعيف لان عدد افراد العائلة المالكة وشخصياتهم كان معروفا للجميع وهو قد رأهم متجمعين في الغرفة الخلفية للقصر مما يستبعد مثل هذا الاحتمال . ان اقرب جواب لهذا السؤال هو انه لابد وان قام بجولة سريعة ليسرق بسرعة ما يمكن سرقته وليدس في جيبه ما يمكن ان تقع عليه يده من نقود او مجوهرات . نعم هذا حتما ما حصل لانه لا يستبعد ان يكون هذا المجرم القاتل حرامي ولص في نفس الوقت .

بعد برهة قصيرة خرج النقيب عبد الستار من الباب الامامية للقصر ونزل هابطاً الدرجات الأمامية وسلاحه الرشاش بيده (غدارة ذات ثمانية وعشرين اطلاقة) ، ليري الى يمينه نسق العائلة المالكة ومن معهم وقد اصطفوا امام نصف الحلقة المشكلة من الضباط والجنود المهاجمين الواقفين امامهم . تقدم النقيب عبد الستار العبوسي نحوهم من الخلف , وبعد أقل من نصف دقيقة كان يقف خلف العائلة المالكة تماماً .

وفجأة وبدون مبرر وبلمح البصر فتح عبد الستار العبوسي نيران رشاشه من الخلف على ظهور العائلة المالكة ومركزا بالذات على ظهر الامير عبد الاله , فأصابت اطلاقات رشاشته الثمانية والعشرون ظهر الأمير عبدالإله ، ورأس ورقبة الملك وظهري الملكة نفيسة والأميرة عابدية . وبعد بدأ اطلاق النار من قبل النقيب عبد الستار فتح النقيب مصطفى عبدالله نيرانه ايضا من الأمام على البشر الموجودين أمامه ، ليتبعها فورا نيران بقية الضباط الواقفين الى جانبه ، فجاءت بذلك النيران نحو العائلة المالكة من الأمام ومن الخلف , ثم فيما بعد من الجانب ومن كل يد تحمل سلاحاً في تلك اللحظة !! ، أصيب الملك بعدة طلقات فتحت جمجمته وسقط في أحضان الأميرة هيام الواقفة الى جانبه والتي تهاوت أرضاً وقد أصيبت في فخذها ، وسقط الأمير عبدالإله قتيلاً وانصبت عليه نيران اكثر من فوهة نارية ، وظل يتمرغ على الأرض مطلقا صرخة قوية ، ونالت الأميرة عابدية والملكة نفيسة حظهما من رصاص المهاجمين ، فتمرغتا بالأرض وهما تلفظان أنفاسهما الأخيرة ، واصيب جندي الحرس محمد فقي الواقف معهم بعدة طلقات نارية صرعته فوراً ، وجرحت الخادمة رازقية ، وقتل الطباخ التركي ، وقتل ألخادم الاخر في نفس البقعة أيضاً . لم تصب الاطلاقات الطفل ( جعفر اليتيم ) الذي كانت تربيه الأميرة عابدية فحاول ان يهرب يمينا إلى زاوية من زوايا القصر ، إلا ان جنون الجنود المهاجمين لم يتركه اذ سرعان ما عاجلوه برصاص بنادقهم فأردوه قتيلاً ايضا . كما أثار منظر الدماء وأصوات الطلقات النارية جنون ضابط المدرعة المرافقة للسرية المهاجمة ، ففتح نيران رشاشته الثقيلة على الأجسام الملقاة أرضاً، فحرثها حرثاً .







كان اطلاق النار من الامام والخلف هو دليل على ان هؤلاء لم يكونوا الا عصابة من المجرمين لان من اول اعراف التعبئة العسكرية التي يتعلمها الضباط والجنود هي ان اطلاق النار يجب ان يجري من جهة واحدة . لذلك اصيب النقيب مصطفى عبدالله بطلقة نارية بصدره ، وسقط أرضاً والدم ينزف من جرحه ، وتهاوى بين الشجيرات النقيب حميد السراج وقد أصابته طلقة نارية في كعب قدمه ، وسقط ضابط صف برتبة رئيس عرفاء قتيلاً من المهاجمين .. نجت الأميرة هيام من القتل اذ اصيبت بفخذها فقط , فقد تمكنت من الزحف إلى ركن أمين وتقدم منها ضابط وحملها بيده حيث أخفاها في غرفة حرس الباب النظامي ، والدماء تسيل منها .

ليس هناك حاجة لوصف ما جرى بعدها , لان ما تلى هذا في ذلك اليوم والايام القليلة بعدها من اعمال تمثيل بالجثث سيبقى لكة في جبين العراق وتاريخه لن ينساها له الزمان ولن يغفرها له الله ابدا . 


بقلم
وسام الشالجي
 مع تحياتي