بقلم
وسام الشالجي
لم يشهد تراث بلد ما من حرب شعواء شنت عليه لطمسه وتغييبه كما شهد التراث الفني والثقافي العراقي . فلاكثر من مرة وعلى مدى ثلاث عقود خضع هذا التراث الى حملات متتالية استهدفت وجوده وملكياته وموقعه كفن اصيل وعريق له مكانته بين فنون امتنا العربية , وحتى فنون العالم . وقد شهد هذا التراث الاصيل اكثر من مؤامرة على مدى هذه الفترة لمسحه من الذاكرة وتغييب انجازاته وطمس كل معالمه .
1- المؤامرة الاولى :
في هذه المؤامرة يمكن ان نعتبر بان كل القوى العالمية
التي فرضت الحصار على العراق بعد عام 1990 قد شاركات في تدمير التراث الفني
والثقافي العراقي . لقد وعد جيمس بيكر - وزير الخارجية الامريكي العراقيين بأعادتهم
الى عصر ما قبل التصنيع , وبالفعل هذا ما حدث . فبعد ان سدت كل منافذ العراق امام
كل شيء مصنع يمكن ان يستورد اضطرت المؤسسات العراقية ومن بينها دار الاذاعة
والتلفزيون الى اللجوء الى احتياطياتها المحدودة لسد احتياجاتها من المواد التي
تحتاجها في اعمالها . وخلال مدة قصيرة نفذ كل ما في الاذاعة والتلفزيون من بكرات
تسجيل وكاسيتات سمعية ومرئية التي تبخرت بسرعة لكون العراق في حالة حرب وتفاعل
شديد مع محيطه الخارجي والداخلي بسبب توالي الاحداث الجسام التي تركت اثرها على كل
شيء في العراق . لم يجد المسؤولين في هذه المؤسسة بعد هذا النفاذ غير اللجوء الى
الخزين المستعمل القديم واستعماله مرة اخرى لتوثيق تلك الاحداث . لقد كان العاملين
في الاذاعة والتلفزيون في حالة تحدي مع الظروف والاحداث التي جعلتهم مضطرين على
تقديم الاهم على المهم في ظل حالة الصراع الشديد الذي كانت تشهده الامة مع اعدائها
. لم يكن الامر لاسبوع او اسبوعين ولا لعدة اشهر , بل استمر لسنين طوال وصلت الى
الرقم المشؤوم (13) سنة . في هذه المدة الطويلة مسح كم هائل من محتويات موجودات
الاذاعة والتلفزيون العراقية من البكرات والكاسيتات التي كان مسجلا عليها تاريخ
بلد كامل بكل احداثه بالاضافة الى كم لا يستهان به من ذاكرة العراق الفنية
والثقافية . لم يكن من السهل تعويض ما فقد , لكن هؤلاء العاملين كانوا واثقين بانه
اذا ما عادت الامور الى نصابها بسرعة فانهم سيستطيعون تعويض جزء كبير مما فقد من
خلال اللجوء الى ما يملكه الاخرين من مواطنين ودور اذاعة وتلفزيون في دول شقيقة ,
لكن مثل هذه الفرصة لم تتحقق ابدا وضاع والى الابد كم لا يستهان به من تاريخ وفن
وتراث العراق .
2- المؤامرة الثانية (المؤامرة الكبرى) :
كانت اقوى نكسة وقعت للتراث الفني والثقافي العراقي هي ما
حصل في واقعة تدمير وسلب ونهب مبنى الاذاعة والتلفزيون العراقي بعد احداث عام 2003
. فقد شهدت بغداد بعد سقوطها في
9 نيسان عام 2003 على يد قوات التحالف حملة تدمير هائلة وسرقة ونهب لم تشهدها اي مدينة
مماثلة في العصر الحديث . لقد تعرض كل شيء حضاري في بغداد للنهب والسرقة والتدمير
, وكأن هناك قوى كانت تنتظر مثل هذه الفرصة للثأر من هذه المدينة العريقة . ولقد
شهد كاتب هذه السطور شخصيا جوانب من هذه الاحداث , حيث رأى بأم عينه قوى منظمة
تقوم بالتتابع باحتلال مبانى ومنشأت المؤسسات الحكومية ثم تقوم بافراغ محتوياتها
في شاحنات ضخمة , وبعد ان تفرغ تماما من كل شيء يمكن نهبه او سلبه يجري احراق هذه
المبانى لطمس كل علائم هذه السرقات . ولم يسلم من السرقة حتى حجر تغليف الابنية
والبلاطات والشبابيك , بل تم قلع كل شيء يمكن قلعه , واذا تعذر رفع او قلع اي شيء
يجرى تحطيمه في مكانه . كان كل شيء يسرق يحمل على شاحنات تريلر لتتجه به صوب
الحدود باتجاه دول جاورة . لقد تحولت معظم الدوائر الحكومية والمؤسسات والمصانع
والمدارس والكليات بعد هذه الحملة الى مجرد هياكل مجردة ومدمرة واصبحت ليست اكثر
من شواهد تنطق بصدق وحزن لكل من يراها لتصف مدى الوحشية والقسوة التي عوملت بها .
ومن بين المباني التي وقعت ضحية لهذه الحملة الظالمة هو مبنى الاذاعة والتلفزيون العراقية . لقد شاهدت هذا المبنى بعد ايام قليلة من سقوط بغداد ولاحظت بدقة الى ماذا أل حاله . لقد كان المبنى مدمرا تماما واثار الحريق بادية عليه من كل الجوانب . وخلال تجوالي في الاسواق شاهدت البضائع المنهوبة تباع على الارصفة , ولم يكن من الصعب على شخص مثلي بان اشخص البضائع المسروقة من دار الاذاعة والتلفزيون . كنت ارى اكداس من بكرات التسجيل التي يمكن معرفة قدمها من ملاحظة حجمها وشكلها وطبيعة حاوياتها , موضوعة على الارض ومعروضة للبيع باثمان ليست عالية . كنت اقلب بعضها واشاهد الملصقات الموجودة عليها والتي تبين انواع واشكال مختلفة من الفهرسة تدلل بوضوح على انها تعود لدار الاذاعة والتلفزيون . لم يكن لدي جهاز تسجيل قديم من النوع الذي يشغل مثل هذه البكرات , لذلك لم اعمد الى شرائها بالرغم من رخص الاسعار المعروضة بها . ثم ان ما موجود عليها من ملصقات لايعطي فكرة عن نوعية التسجيلات الموجودة فيها , بل كانت مجرد رموز تتكون من ارقام وحروف مما يشير الى وجود أدلة كانت تستعمل كمفتاح لفتح هذه الرموز لكي تبين ما موجود على هذه البكرات من تسجيلات . ويبدوا بان تلك الادلة قد تركت لتحترق مع المبنى لعدم اعتقاد السراق باهميتها . لذك لم اشتري اي قطعة من هذه البكرات لهذه الاسباب , كما اني كنت ايضا اخشى من شراء شيء من هذه المسروقات وادخاله الى بيتي .
ظلت صور هذه المناظر مخزونة في ذهني ولم انساها قط . وككلمة حق لابد ان تقال فأن الكم الذي شاهدته من هذه الاكداس لم يعكس ابدا حقيقة ما يفترض بانه موجود فعلا في دار الاذاعة والتلفزيون التي ظلت عاملة لمدة قاربت السبعين عاما . فانا لم اشاهد اشرطة سينمائية ولا كاسيتات فيديو ولا كاسيتات تسجيل وانما فقط كم محدود من بكرات التسجيل واسطوانات قديمة ليست ذات اهمية مما دفعني الى الاستنتاج بان القسم الرئيسي من موجودات هذه الدار لابد وان يكون قد صودر بطريقة مدروسة ومنظمة من قبل جهة عالمة بهذه الموجودات , وانه قد تم تسريبها الى اتجاهات محددة , وان النزر اليسير فقط ترك ليسرق من قبل الناس كتغطية على جريمة السرقة الاصلية .وخلال الفترات اللاحقة تم انشاء عدد كبير من محطات التلفزة الفضائية والاذاعات واخذت تظهر من خلال شاشاتها ومذياعاتها تسجيلات صوتية ومرئية تبين بوضوح بانها كانت من موجودات دار الاذاعة والتلفزيون العراقية . ويدلل هذا على ان تلك الموجودات التي نهبت قد تسربت بالاخر الى هذه المحطات بشكل او بأخر .
ومؤخرا كشف المذيع العراقي المخضرم والاعلامي ابراهيم الزبيدي بعض المعلومات السريعة عن هذا الموضوع عرفها من خلال كونه أحد أعضاء اللجنة الاعلامية المكلفة بالأشراف على قطاع الأعلام عقب سقوط النظام السابق , لكنه ترك تفاصيل عرض هذه الجريمة لحين صدور كتابه القادم ((دولة رماد .. وثائق سقوط الجمهورية العراقية )) الذي يتطرق فيه بشكل مسهب وبالأدلة الرسمية الموثقة لهذا الحدث . وقبيل صدور الكتاب قال الزبيدي بانه ذهب مع بعض الاشخاص إلى مركز شرطة السعدون لمعاينة مسروقات تلفزيونية ضبطتها الشرطة في منزل يقع في شارع أبو نواس ، وأنهم وجدوا أجهزة تلفزيونية وأفلاما سينمائية وأشرطة فيديو وأشرطة إذاعية بكميات هائلة . وبعد التدقيق تبين أنها تمثل جانب كبير من آرشيف الإذاعة والتلفوزيون منذ أيام الملك غازي وفيصل الثاني إلى أيام عبد الكريم قاسم ثم أيام البكر وصولا الى ايام صدام حسين , بالاضافة الى كميات ضخمة من الصور المهمة التي تمثل مختلف النشاطات في مختلف العصور التي مرت بالعراق . وقد طلب هؤلاء من الشرطة التحفظ على هذه الموجودات والتصرف فقط بالأجهزة لأنها بالاساس مخربة . ولكون اللجنة الإعلامية لم تملك في ذلك الوقت قاعة مناسبة بمواصفات فنية صالحة لحفظ هذا الأرشيف ، فقد طلب الزبيدي من إدارة شبكة الإعلام العراقية أن تتسلم الأرشيف كاملا وتحفظه لديها لحين صدور قرار لاحق بشأنه . وبعد أسبوع أبلغت إدارة شبكة الإعلام الزبيدي بأن الأرشيف اختفى من الدار التي كان محفوظا فيها . وبعد مراجعة سجل التحقيق في حاكمية تحقيق الرصافة قال الزبيدي بان شخص معروف في ذلك الوقت هو (سعد عاصم الجنابي) قام باستلام الأرشيف كله ، وقام بنقله إلى مكان مجهول وان ذلك تم بأمر من ضابط أمريكي في قوات التحالف يخول هذا الشخص بتسلم الأرشيف . وقد وعد الزبيدي بكشف التفاصيل الكاملة لهذه العملية في كتابه القادم . ان ما يؤسف له حقاً هو ان هذه الخيانة الوطنية الكبرى قد مرت مرور الكرام على الرأي العام العراقي ، ولم تسمع اية احتجاجات جادة او مطالبة بفتح تحقيق في هذه القضية ومحاسبة المسؤولين عنها .
بعد سنوات من هذا الحدث , قام كاتب هذه السطور بتوجيه نداء للشرفاء من العراقيين والاخوة العرب من خلال احد المنتديات العربية المعروفة على شبكة الانترنت هو (منتدى سماعي للطرب العربي الاصيل) للبدأ بحملة لجمع ولملمة التراث الفني والثقافي العراقي المغيب والضائع . وقد استجاب لهذا النداء المئات من العراقيين الشرفاء وانتخت نخبة مميزة منهم لتأخذ على عاتقها التكفل بهذه المهمة الوطنية وتقود حملة لحفظ وتوثيق كل ما يمكن ايجاده في ارشيف هذا المنتدى . لقد وضع هؤلاء انفسهم امام هدف كبير وصعب وقرروا انجازه مهما كانت المعوقات . وبالفعل اخذوا يبحثون في كل مكان ويحفرون الارض بأيديهم ويكسرون حتى الصخر من اجل ايجاد اغنية نادرة هنا او العثور على مقطوعة موسيقية ضائعة هناك . لقد عمل هؤلاء المستحيل وسافر البعض منهم ممن يعيشون في دول المهجر الى العراق بالرغم من حالة غياب الامن فيه لا لشيء الا للبحث عن ما يمكن جمعه تنفيذا للعهد الذي قطعوه لانفسهم . وبالفعل تم انجاز الكثير وتحققت معجزات ما كان يمكن لان تتحقق وعثر على نوادر لم يحلم بأيجادها , وتم جمع كم هائل من الاغنيات النادرة والمفقودة التي ظلت لسنوات غائبة عن الساحة , خصوصا في مجال الاغنية الوطنية التي خضعت لاقوى حملة من التغييب خلال ربع القرن الماضي . اصبح خزين ذلك المنتدى العربي من التراث الفني والثقافي العراقي لا يحلم به اي موقع اخر , بل تحسده عليه وزارات ثقافة واعلام لدول ودور اذاعة وتلفزيون عريقة . وفي ظل هذه النجاحات الكبيرة التي تكللت بها تلك الجهود العظيمة , كان هناك من لا يعجبه ما يتحقق ويرى فيه خروج عن الخط المرسوم لتدمير التراث العراقي وتغييبه الى الابد . كان دائما هناك من يشد الى الوراء لايقاف تقدم هذه المسيرة , وكانت هناك باستمرار تنكيلات تأتي من هنا وهناك لتدمير ما أنجز وشطب ما تحقق . وبعد ما يقارب الاربع سنوات تم جمع كم كبير من التراث الفني والثقافي العراقي واودعت في خزائن المنتدى واصبحت كل المواقع على الشبكة العنقودية تنهل من هذا الخزين . لقد اصبح منتدى سماعي للطرب العربي الاصيل الامين على هذه الثروة مما يحتم عليه رعايتها وصونها بقدر ما كان ذلك ممكنا . غير انه لا زالت هناك خشية من ان تتعرض هذه الامانة للطمس والتغييب مرة اخرى من قبل عناصر لا يريحها وجودها . ان هذا الامر جائز وقابل للحصول , كما حصل مؤخرا حين قام البعض بحذف وشطب الاف المساهمات والمشاركات التي رفعها الاعضاء المخلصين بحجج مختلفة ادعي فيها بان تلك المساهمات لا تتوافق مع قوانين المنتدى وميثاقه .
تعتبر جريمة سرقة ونهب وتدمير ارشيف الاذاعة والتلفزيون العراقية واحدة من اكبر الجرائم الثقافية في التاريخ لما في هذا الارشيف من كنوز لا تقدر بثمن تمثل تاريخ حضاري لشعب وبلد كامل . لقد ضاعت بهذه الجريمة ذاكرة العراق البصرية والسمعية التي تجمعت في هذا الأرشيف الثمين جدا , ومن المؤكد ان كل مواطن عراقي حريص على ذاكرة وطنه وتاريخه يشعر بالفجيعة لهذه الخسارة الفادحة التي طالت أحد أهم مصادر المعرفة لتاريخ العراق المعاصر . فهذا الأرشيف هو أهم المصادر التوثيقية للفن والثقافة العراقية وسجل تاريخي وطني للدولة العراقية . كما انه سجل هام حفظ لأبناء هذا الوطن العديد من المحطات الثقافية والفنية والسياسية بالاضافة الى الكثير من تواريخ الأحداث وسجلات الشخصيات العامة . ومن الملفت للنظر بان هذه الجريمة قد حدثت بالتزامن مع سرقة ونهب الآثار العراقية والمكتبات العامة وتدمير ممتلكات الكليات والجامعات وتحطيم امكانياتها , وكأن الارث التاريخي والثقافي والفني لهذا البلد مستهدف بشكل مخصوص لغايات مقصودة . ان هذه المؤامرة الكبرى , وما سبقها وتلاها من مؤامرات صغرى تستهدف تضييع الهوية العربية لهذا البلد واخفاء معالم الوطنية الحقيقية لشعبه الصابر . وبالرغم من كل ما فعلته وتفعله قوى الشر فأن قوى الخير لا بد ان تنتصر في النهاية وسيبقى وجه العراق ناصعا ابيضا كعلامة تشير الى عظمة هذا البلد وبسالة شعبه وتاريخه المجيد .