اخر المواضيع في المدونة

الاثنين، 27 مارس 2017

يحيى حمدي الصوت البغدادي المنسي - دراسة

 بقلم
وسام الشالجي




(1)
من هو يحيى حمدي

يحيى حمدي مطرب وملحن عراقي اسمه الحقيقي (يحيى عبد القادر حمدي) ترجع أصوله الى مدينة تكريت . ولد في محلة المربعة التي تقع في بغداد – الرصافة عام1925  . توفي والده وهو صغير فعاش طفولته وصباه وحيدا مع والدته التي احبها حبا جما وظل بعدها يرعاها ويسعى لارضائها طيلة حياتها معه . بعد ان انهى المرحلة الابتدائية من دراسته تعين يحيى حمدي بوظيفة مراقب بلدية لدى امانة العاصمة ببغداد في منطقة (ابو سيفين) ومنطقة (ابو دودو) . كانت مهنته هذه موضع احتقار من يعرفونه لانه كان يتعامل مع الازبال والنفايات بصورة خاصة من خلال الاشراف على العمال الذين يجمعونها ويرفعونها في تلك المحلات والازقة العائدة لها ومراقبة ادائهم . وفي اوقات فراغه كان يكثر من الذهاب الى المسارح والسينمات ومنها اكتشف بان لديه موهبة فنية مما دفعه الى الاهتمام بهذا الجانب . اكتشف في نفسه حلاوة الصوت والقدرة على التلحين مما دفعه للتقدم الى دار الاذاعة والتلفزيون العراقية الكائنة في منطقة الصالحية في عام 1946 كمغني هاوي . أعجب المشرفون بدار الاذاعة بصوته وأدائه الغنائي فصار يغني الاناشيد الوطنية واغاني الطفولة في الاذاعة ضمن برنامج مخصص للصغار . كما صار يغني ايضا بعض الاغاني المستمدة من المقام العراقي الذي يشتمل على عدة فروع وانغام اصيلة . ومن سيرته الفنية في تلك الفترة انه قدم بعد نكبة فلسطين عام 1948 عدة اغاني وطنية مخصصة لفلسطين السليبة من خلال ميكرفون دار الاذاعة العراقية التي كانت تبث برامجها على الهواء مباشرة من دون تسجيل . وفي بداية الخمسينات تطور يحيى حمدي اكثر فراح يلحن الاغاني التي يغنيها بصوته . لم يكن يحيى حمدي يجيد العزف على آلة العود ولا على أي ألة موسيقية اخرى , ولم يكن ايضا يعرف كتابة النوطة الموسيقية وكل ما كان يعرفه هو تأليف وترديد اللحن بصوته وحفظه عن ظهر القلب . وحين عكف على التلحين صار يردد الالحان التي يؤلفها على اصدقاءه المقربين من المولعين بالموسيقى والغناء فيدونون له الحانه كنوطات موسيقية . وفي هذا السياق كان كثيرا ما يضطر للذهاب الى صديقه الملحن (جميل سليم) والذي يسكن في محلة العمار القريبة من محلة المربعة ليكتب له نوط اغانيه على خلفية دراسة الاخير للموسيقى.

استمر يحيى حمدي على هذا الحال كهاوي للغناء والموسيقى من غير أحتراف ارضاء لموهبته وولعه من دون ان يستفيد من هذا المجال بأي شيء . ومن بين المفارقات المؤلمة التي تذكر في حياة هذا الفنان الرائد انه عند انتهائه من تقديم اي وصلة غنائية على الهواء من دار الاذاعة كان يتقاضى بعدها مبلغا قدره اربعة دنانير يستلمها مباشرة ، لكنه كان يضيف اليها مبلغ دينار واحد من جيبه الخاص ليعطيها للفرقة الموسيقية التي كانت تعزف وراءه لان أجر تلك الفرقة كان يبلغ خمسة دنانير . كما كان رحمه الله يقطع المسافة من بيته الواقع في منطقة الرصافة - محلة المربعة الى دار الاذاعة بالصالحية مشيا على الاقدام عبر جسر الاحرار حتى يصل لدار الاذاعة لمجرد ان يبقى متواصلا مع فنه . وفي اواسط الخمسينات واستمرار عطائه المتميز قامت اللجنة المشرفة في دار الاذاعة والتلفزيون بأعتماده كمطرب رسمي محترف , فبدأت شهرته بالظهور كمطرب وملحن واصبح شكله معروفا نتيجة لظهوره من على شاشة التلفزيون كمغني . صار هذا الوضع الجديد يسبب للفنان يحيى حمدي المزيد من الاحراج لما يلاقييه من الصفير والمضايقات والتهريج بالكلمات بالكلمات النابية النابية من قبل اطفال وصبيان الاحياء والازقة التي يعمل فيها لمجرد انه مطرب ويعمل في الاذاعة والتلفزيون وبنفس الوقت يشرف على جمع الازبال , وكان كثيرا ما يضطر الى ترك عمله والهروب منهم بعيدا . كما ان الضغوط الاجتماعية التي كان يتعرض لها في الاحياء والازقة البغدادية التي يعمل فيها والتي كانت تعيب على المرء امتهان حرفة الغناء قد جعلته في وضع اكثر سوءا وزادت من معاناته . من ناحية اخرى كان الاجر الذي يتقاضاه من وظيفته ضئيلا حتى انه كان يضطر لقطع المسافة بين منطقة سكنه في المربعة ومحلة (ابوسيفين) و (ابو دودو) مشيا على الاقدام حتى يصل الى موقع بعمله . وبسبب هذه الاوضاع والمضايقات التي كان يتعرض اليها يوميا قرر اخيرا ان ينقل خدماته من أمانة العاصمة الى دار الاذاعة والتلفزيون العراقية . وبهذا الانتقال بدأت مرحلة جديدة من حياة هذا الفنان البغدادي الاصيل تفرغ بعدها كليا للغناء والتلحين والاخراج والموسيقي  .

بعد ان صار يحيى حمدي مغنيا محترفا راح مع غيره من زملاء المهنة يسعى الى تطوير الاغنية البغدادية وادخال طابع الحداثة اليها من خلال اعتماد مقامات موسيقية جديدة  مناسبة وادخال الالات الموسيقية الحديثة اليها . وبالفعل نجح بذلك نجاحا باهرا بهذا وصارت اغانيه موضع حب واهتمام كافة المستمعين , وصار معروفا بكل ارجاء بغداد , وبالاخص مناطق الاعظمية والفضل والمربعة وعكد النصارى وغيرها من محلات بغداد القديمة . بل ان صيته وشهرته امتد ليشمل كل ارجاء العراق , خصوصا اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان تلفزيون بغداد اخذ ينتشر وصار الناس يتابعون الاغاني والموسيقى التي تقدم من خلاله . ظل يحيى حمدي يعمل بالغناء والتلحين لمدة قاربت الخمسة وعشرين عاما , كما ان لحن الكثير من الاغاني لغيره من المطربين والمطربات  وحتى بعد ان توقف عن الغناء والتلحين ظل يعمل بالاذاعة والتلفزيون كمخرج موسيقي فساهم بظهور عشرات الاغاني الى الأضواء من خلال عمله .

 
محلة المربعة – بغداد

(2)
حالته الاجتماعية


كان يحيى حمدي معروفا بطول قامته وضخامته ولون بشرته السمراء الا انه كان بنفس الوقت ذا روح شفافة تملؤها العاطفة الجياشة والكبرياء والعفة . كما كان كتوم وقليل الكلام لا يثرثر ولا يتحدث عن احواله الشخصية الا نادرا مما جعله موضع ثقة كل من يعرفونه حتى اصبح بالنسبة لهم خزانة أمينة لاسرارهم . عاش يحيى حمدي وفي قلبه حبين عظيمين ملئا كل حياته واستفردا بكل عاطفته . الحب الاول هو حبه الهائل لأمه التي تولت رعايته وحدها منذ ان كان طفلا صغيرا بسبب الوفاة المبكرة لوالده . وحتى بعد ان شب وكبر وصار رجلا ظلت والدته هي التي ترعاه وتسهر على شؤونه الى ان كبرت وتقدمت بالسن فدارت الدائرة فصار هو الذي يرعاها ويقدم لها كل ما في استطاعته من عناية لازمة . وفي اواسط الستينات رحلت والدته عن الدنيا فاصيب يحيى حمدي بصدمة شديدة زادت من أزماته النفسية التي كان يعاني منها أصلا فعاش وحيدا منعزلا عن الناس . أصاب رحيل والدته الفنان يحيى حمدي بأكتئاب شديد جعلت معظم أغانية بعد تلك الواقعة يغلب عليها طابع الحزن والنحيب بعكس اغانية قبلها . ولو قارنا الاغاني والالحان البهيجة والتفاؤلية التي كان يغنيها في بدايات عمره الفني مثل اغنية (زعلانه وانتي المنى) واغنية (لو كتلك حبيبي عيني فدوه) واغنية (يا زارعين الورد) التي عدت في حينها من اجمل الاغاني الصباحية , وكذلك اغنية (انت وبس غيرك لا) التي غناها في مرحلة شبابه مع الاغاني التي غناها بعد اواسط الستينات للاحظنا بوضوح مسحة الحزن في اغانيه اللاحقة والتي تعبر عن مدى حزنه الكبير على فقدان امه .  وقد غنى لوالدته بعد رحيلها عدة أغاني تعبر عن افتقاده لها مثل اغنية (افتكرج دوم يا امي .. ردتج دوم يمي بافراحي وهمي .. يا عيني يا امي) , واغنية (جينه ومالكينه .. لو ندري مجينه) , وكذلك اغنية (اني من يسأل عليه) واغنية (التوبه التوبه يا ناس) والتي يغلب عليها جميعا مسحة الحزن الواضحة .

الحب الكبير الثاني الذي ملأ قلب الفنان يحييى حمدي هو عشقه لأمرأة يهودية كانت تسكن منطقة الاعظمية . لا يعرف كيف التقى الفنان بهذه الفتاة , لكن يبدوا بانه التقاها بشكل ما في أواخر الاربعينات فعشقها لجمالها الفائق وشبابها . لم يستطع يحيى حمدي ان يتزوج من حبيبته بسبب الظروف والاعراف الاجتماعية لكلا الطرفين التي تحول دون ذلك لاختلاف دينيهما . لم يجد الفنان امام هذا الحب وجنونه بحبيبته غير ان يغازلها ويعبر لها عن حبه واشواقه من خلال اختياره للأغاني التي يلحنها ويغنيها , ومنها اغاني (فدوة ياعزيز العين فدوة) و(عيونك لوه وسحارة) وغيرها . ويبدوا ان أسرة حبيبة الفنان يحيى حمدي اليهودية كانت تعد العدة لمغادرة العراق والهجرة الى اسرائيل , وبالفعل فقد سافرت الحبيبة مع اسرتها اواسط الخمسينات وتركت خلفها الحبيب الولهان هائما بحبه لوحده . كان لهذه الصدمة العاطفية اثرها الكبير على حياة فناننا فصار بعدها كئيبا ومنطويا على نفسه . ظل يحيى حمدي بدون زواج بسبب تأثره بتجربته الاولى في الحب وبسبب الشروط التي وضعها في أي فتاة يمكن ان يقترن بها . فبسبب حبه للفتاة اليهودية كان يشترط باستمرار بان تكون الفتاة التي يقترن بها فائقة الجمال لا يقل جمالها عن جمال حبيبته الاولى وان تكون ايضا شابة في مقتبل عمره . وبسبب هذه الشروط الصعبة , ونتيجة لتقدمه بالسن وحاله الغير ميسور لم يكن من السهل ابدا ان يعثر على ما ينشده فظل بدون زواج حتى بلوغه الاربعينات من عمره من عمره .

في اوائل السبعينات سئم مطربنا الكبير يحيى حمدي حياة العزلة والانطواء التي يعيشها وتضايق من صعوبة ايجاده لدار يسكنها بسبب كونه عازب مما كان يضطره للتنقل من سكن الى أخر في اكثر من مكان في مدينة بغداد . كما ان شعوره بالتقدم بالعمر دفعه الى ان يقرر الزواج والبحث بجدية عن امرأة تصلح لان تكون زوجة له , ورغم هذه الحاجة الملحة لم يتنازل عن شروطه التي كان يتوسمها بالزوجة المطلوبة ومن بينها ان تكون صغيرة السن وفاتنة , والاهم من كل ذلك من ربات البيوت المحافظات . وقد ساعده بهذا بعض اقربائه فأختاروا له واحدة على قدر كبير من الجمال والعفة وافقت عليه بالرغم من سنه المتأخرة الامر الذي شجعه على الاقتران بها . كانت هذه المرأة تركمانية من منطقة كركوك وبعيدة كليا عن الوسط الفني , وربما كان لهذا الاختيار أسباب تعود الى المواصفات التي كان يطمح بها في زوجة المستقبل . وبعد زواجه من هذه المرأة انجب يحيى حمدي منها ثلاثة اولاد هم (عادل وعدي وقصي) . لم يتجه هؤلاء الاولاد الى العمل الفني كأبيهم بل اتجهوا الى اعمال اخرى فصار ثلاثتهم يمتهنون حرفة الحلاقة , وهم يعيشون الان في حي المهديه في منطقة الدوره في بغداد .

كان يحيى حمدي قليل الاصدقاء , فعدا علاقاته ببعض اقربائه كانت معظم الصداقات التي لديه محصورة بالوسط الفني الذي يعيشه . فبعد ان دخل عالم الفن تكونت له عدة صداقات من اشخاص يعملون في التلحين وتأليف الاغاني . ومن اصدقائه المقربين الفنان (جميل سليم) الذي كان يدون له معظم نوطات الحان اغانيه التي يؤلفها . ومن اصدقائه المقربين ايضا الشاعر الغنائي والناقد الفني (هلال عاصم) الذي كتب له معظم اغانيه في تلك المرحلة مثل اغنية (زعلانة وانتي المنى) واغنية (اني من يسأل علية) واغنية (ما احبك ولا اريدك) وغيرها . وخلال عقدي الستينات والسبعينات صارت معظم صداقاته محصورة تقريبا بالمطربين والمطربين الذي راح يلحن لهم الاغاني مثل جاسم الخياط ومحمد كريم وغيرهم . كان يقضي معظم أمسياته في داره وهو يستمع الى صوت الفنان الكبير فريد الاطرش خلال حفلاته التي كانت تقام تحت اسم (شم النسيم) والتي كانت تذاع من اذاعة صوت العرب في مصر .  كما كان يقيم امسيات فنية في داره يجمع فيها بعض المحبين والاصدقاء حيث يقوم بغناء بعض اغاني فريد الاطرش مثل اغنيته الشهيرة (بنادي عليك) التي كان يغنيها بصوته الخالص مما يضيف عليها حلاوة كبيرة , وللأسف لا تتوفر أي تسجيلات عن تلك الامسيات . وفي الثمانينيات كان يحيى حمدي يمضي معظم اوقاته قبل وبعد بدء دوامه في دار الاذاعة والتلفزيون عند صديقه صاحب صيدلية الحكيم الواقعة بالصالحية . وبالرغم من شهرته كمطرب وملحن لم تتوفر له اي فرصة للسفر خارج العراق , كما كان لا يبارح بيته خارج اوقات الدوام الا عند الضرورة .

ظل يحيى حمدي يعمل كمخرج وموسيقي في مؤسسة الاذاعة والتلفزيون العراقية . وفي الثمانينات انحسر عطائه الفني وظل دخله محصورا براتبه الوظيفي الذي لم يكن ليوفر له اكثر من عيشة الكفاف , وربما حتى اقل من الكفاف وهو الذي خدم الحركة الموسيقية العراقية طوال اربعة عقود . وبالرغم من هذا الوضع المالي الصعب ودخوله العقد الستيني من العمر تكيف يحيى حمدي مع الاحوال التي يعيش بها وراح يقضي مجمل ايامه ما بين البيت والوظيفة وانصرف لوضعه العائلي وانشغل برعاية شؤونه الاسرية مع تزايد متاعب الحياة التي لا تنتهي في العراق . كان اكثر ما يؤلمه هو حالة العزلة والانزواء التي كان يعاني منها في موقع عمله , فعلى سبيل المثال كان يواجه تجاهلا واضحا من قبل الفنان طالب القره غولي رئيس قسم الموسيقى والغناء مما ترك في نفسه جرحا عميقا جعله يكف عن تقديم الألحان والنتاج الغنائي عمومـا . وقد ساهم اكثر بهذا تجاهل معظم العاملين بالإذاعة والتلفزيون له بسبب عدم مشاركته في حملة أغاني والاناشيد الحرب التعبوية التي كانت مخصصة للحرب العراقية الايرانية التي كانت مشتعلة بذلك العقد . وفي اواخر الثمانينات تقاعد من عمله بدار الاذاعة وانزوى وحيدا شبه منسيا في داره من غير وجود لمن يذكره او يسأل عنه . وفي عام 1996 فارق الحياة في منزله عن عمر يناهز الحادية والسبعين ولم يشارك في تشييعه ودفنه سوى اهله وبعض معارفه .

 ظل صوت المطرب يحيى حمدي ولفترة طويلة احد اهم الاصوات العراقية المتميزة التي حفرت وجودها عميقا في ذاكرة ووجدان المستمع العراقي . ويتميز هذا الفنان عن غيره بانه كان من رواد الأغنية البغدادية الحديثة ممن حاولوا تكريس ووضع بصمة مميزة لها , وقد أبدع في ذلك اجمل ابداع من خلال عدد من الاغاني والألحان التي ذاعت شهرتها في زمن الطرب الأصيل . عاش يحيى حمدي فقيرا ومات فقيرا , وكانت حياته حافلة بالأحزان والألام التي صارت سمة لمعظم نتاجاته الغنائية والتلحينية , وفي النهاية لم يجن من وراء ما قدمه للساحة الغنائية طوال خمسة واربعين عاما غير التجاهل والنسيان . سيبقى فناننا الكبير يحيى حمدي في ذاكرة كل محبي الاغنية البغدادية , وسيبقى عطاءه الفني في ذاكرة جيلين او ثلاثة ممن عاصروه وألهب عقولهم بامتع الاغاني والالحان .


منطقة ابو سيفين - بغداد


(3)
يحيى حمدي والسياسة


لم يعرف عن الفنان يحيى حمدي انتمائه الى اي فئة سياسية او تنظيم حزبي , ويبدوا انه كان في قرارة نفسه عازما على ان يكون بعيدا عن السياسة ومتاعبها , وهو ان أفلح بأبعاد نفسه عن السياسة فأنه لم يفلح في ابعادها عن متاعبها . أول ما يلاحظ من متابعة سيرة حياة الفنان يحيى حمدي الاجتماعية والفنية أنه كان ذو حس وطني عميق وفي نفس الوقت ذو ميول يسارية  بالرغم من عدم انتمائه الى اي جهة تسير بهذا الاتجاه . ومما يدلل على حسه الوطني انه قدم بعد نكبة فلسطين عام 1948 مجموعة من الأغاني الوطنية من تلحينه غناها على الهواء من خلال ميكرفون دار الاذاعة العراقية التي كانت تبث برامجها على الهواء مباشرة من دون تسجيل , وللأسف لا يوجد اي تسجيل محفوظ لتلك الاغاني . ومما يذكر عنه في مطلع الخمسينات ايضا انه تشاجر مع أحد المسؤولين الامنيين في دار الاذاعة بسبب اغنية اداها مباشرة على الهواء اعتبرت كلماتها تمس النظام الملكي بذلك الوقت , ومرة اخرى لا يوجد للأسف اي معلومات عن تلك الاغنية ولا عن كلماتها لكن من المرجح انها اغنية ظاهرها العام عاطفي لكن مدلولاتها العميقة تشير الى الاحوال الصعبة التي كان يعيشها المواطن العراقي في ذلك الوقت . ان في هذا الحدث اشارة واضحة على ان الفنان يحيى حمدي كان ذو ميول يسارية لان اقوى الحركات التي كانت تنشط وتعمل ضد النظام الملكي بذلك الوقت هو الحزب الشيوعي العراقي . 

وبعد قيام ثورة 14 تموز عام 1958 وأسقاط النظام الملكي تغيرت الاحوال بمعظم ارجاء البلاد وانتعشت الحركات اليسارية وعلى رأسها الحزب الشيوعي العراقي الذي اصبح متنفذا بالرغم من انه لم يكن الحزب الحاكم رسميا في العراق . ومن خلال متابعة حياة الفنان يحيى حمدي بتلك الفترة ونشاطه الفني الواضح فأن من المعتقد بان نوازع فناننا الكبير الداخلية كانت كما يبدوا منسجمة مع الوضع الجديد الذي ساد بالعراق في وقتها . ونتيجة لعمله الفني ووجوده في وسط مركز تسليط الضوء الاعلامي على الاحداث فقد  تكونت له بذلك الوقت صداقات قوية مع بعض العاملين بالاذاعة ممن ينتمون للحزب الشيوعي العراق او من ذوي الأتجاهات اليسارية . من المؤكد بانه كانت ليحيى حمدي اغاني وطنية انتجها بتلك الفترة لان معظم فناني تلك المرحلة قدموا عطاءات كثيرة تمجد الواقع الجديد والتغيير الذي حصل بالبلد , ألا ان الذاكرة التسجيلية تخلو من اي عمل وطني له في حينها , ولا حتى من اشارة لاي جهد موثق له خلال العهد الجمهوري الاول وهو أمر يدعو الى الاستغراب . ان هذا لا يعني ابدا بانه لم يشارك في تقديم اغاني وطنية بذلك الوقت لكن من المرجح ان مثل تلك الاغاني قد طمست وغيبت بشكل مقصود فضاعت وضاع ذكرها الى الابد .

بعد التغيير الذي حصل في 8 شباط 1963 وانقلاب الدائرة على الحركات اليسارية عموما والحزب الشيوعي العراقي خصوصا واعتقال ومطاردة اعضائه ضاق الحال بكل من يحمل افكارا يسارية أو له علاقة بمن كان شيوعيا ومن بين هؤلاء فناننا الكبير يحيى حمدي . وقد أفادنا مؤخرا الزميل الدكتور (محمد العامري) بمعلومات قيمة مستقاة من بعض من عايشوا مرحلة الستينات والسبعينات بالعراق ذكر فيها بأن الفنان يحيى حمدي قد اعتقل بعد حركة شباط 1963 , ليس بسبب انتمائه للحزب الشيوعي العراقي بل بسبب علاقته مع مجموعة من الاصدقاء الشيوعين . كما انه اعتبر ايضا شاهد على نشاطات بعض المعتقلين الشيوعيين ممن يعرفهم . وتشير الاحداث كما يبدوا بانه لم ينكل باصدقائه كما يفعل الكثيرون بمثل هذه الاوضاع للنجاة بجلودهم مما جعله عرضة للتنكيل والتعذيب في حينها . وبعد قيام حركة 18 تشرين الثاني عام 1963 ومجيء حكم الاخوين العارفين خفت حدة ملاحقة العناصر اليسارية وحل محلها ملاحقة العناصر البعثية مما جعل الاوضاع تهدأ بالنسبة للفنان يحيى حمدي فانصرف بشكل اكبر لمتابعة عطائه الفني والموسيقي .

ومن سوء طالع الفنان يحيى حمدي انه قدم اواسط الستينات اغنية "عيونك حلوه وسحاره ... حرام تلبس نظاره" وتم تسجيل الاغنية في تلفزيون بغداد حيث ظهر يحيى حمدي يغني وبجانبه أمرأة تلبس نظاره سوداء . وبعد ان شاهد الجمهور هذه الاغنية اخذت على ان المقصود بها هو (طاهر يحيى) رئيس الوزراء آنذاك الذي كان معتادا على أرتداء نظاره سوداء دائما لمرض في عينه . وقد أستاء البعض ممن يؤيدون النظام الحاكم بوقتها من هذه الاغنية  ,فوشوا بمغنيها الى دائرة الامن التي قامت باعتقاله وضربه على أساس انه كان يقصد في الاغنية رئيس الوزراء (طاهر يحيى) , الا انه افرج عنه بعد مدة بسيطة لعدم ثبوت اي شيء ضده . وعند اندلاع الحرب العربية الاسرائيلية في حزيران عام 1967 لم يتأخر يحيى حمدي لنداءات حسه الوطني وقدم مجموعة من الاغاني الوطنية اهمها انشودة (تقدم يا عربي تقدم) . وبعد قيام حركة 17 تموز 1968 ومجيء حزب البعث مرة اخرى الى السلطة عادت الأوضاع لتتوتر بالنسبة للفنان يحيى حمدي , وبالفعل فقد اعتقل مرة اخرى في بداية السبعينات من قبل مديرية الامن العامة واتهم بالقيام بنشاطات معادية لنظام الحكم مما ادى الى احالته الى المحاكم . وقد ترافع مدافعا عنه المرحوم المحامي الاستاذ محمد الجميلي الذي استطاع الحصول على حكم باخلاء سبيله لعدم وجود ادلة تثبت ذلك , وكذلك لتوسط احد المسؤولين البارزين في حينها للافراج عنه .

ولو عرفنا القدر الذي تمتهن به كرامة الأنسان ومدى ما يحط من قيمته وأنسانيته في معتقلات دول العالم الثالث عموما وفي العراق خصوصا لأدركنا مدى الأذى الذي يتعرض له أي انسان يسوقه قدره الى مثل تلك المعتقلات . لذلك , كان لهذه الحوادث الاثر البليغ على نفسية الفنان يحيى حمدي وزادت من معاناته النفسية ودفعته بشكل أكبر الى المزيد من الانطواء والى استفحال حالة الكأبة التي كان يعاني منها منذ ان فقد والدته وفشل قصة الحب الجارف التي خاضها لأول مرة بحياته . دفعت هذه الاحوال الى انحسار عطاء الفنان يحيى حمدي الفني بعد حلول عقد السبعينات وتوقف عن الغناء والتلحين وصار ينشغل فقط بعمله كمخرج موسيقي بدار الاذاعة والتلفزيون . ان هذا يدفع الى اليقين بان الفنان لم يكن على وفاق نفسي مع السلطة ورجالها مما جعله يبتعد عن الظهور ويتحاشى الاضواء . ومما يؤكد لهذا ان يحيى حمدي لم يقدم اي اغنية وطنية بعد اندلاع الحرب العراقية الايرانية كغيره من الفنانين مما دفع بالعاملين بالسلك الفني الى تهميشه وتجاهله . ومما أساء ليحيى حمدي بشكل اكبر ودفع الى تجاهله تماما انه كان بتلك الفترة صديقا لصاحب صيدلية الحكيم الواقعة بالصالحية , وكان يقضي الكثير من الاوقات معه بالصيدلية سواء قبل دوامه بالاذاعة او بعد خروجه منها . كان صاحب هذه الصيدلية عضوا بحزب الدعوة الذي كان محظورا بتلك الفترة ونشطا في العمل ضد السلطة , وكان خاضعا للمراقبة الامنية الشديدة . ادى هذا الوضع الى وقوع الفنان يحيى حمدي نفسه للمراقبة والملاحقة وصارت تحوم حوله الشبهات من قبل المحيطين به والمرتبطين بالسلطة خارج دائرة عمله وداخلها . غير ان كونه من الطائفة السنية ومن أصول ترجع الى مدينة تكريت في محافظة صلاح الدين وعدم وجود أي نشاط سياسي له , اضافة الى قلة اصدقائه ومعارفه ووجوده اغلب الوقت في داره قد بدد من الشكوك التي تربط بينه وبين حزب الدعوة فأنقذه القدر من مصير محتم .  

كل الحوادث المبينة اعلاه تؤكد بما لا يقبل الشك بان فناننا الكبير يحيى حمدي كان ذو ميول يسارية عميقة وان هذا النوع من الفكر كان يملأ عقله وقلبه بالرغم من عدم انتمائه لاي حركة يسارية . كما انه كان غير متصالحا نفسيا مع معظم العهود التي توالت على حكم العراق بأستثناء فترات قصيرة وقعت في العهد الجمهوري الاول بعد حركة 14 تموز 1958 , وفترة حكم الرئيسين عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف . لذلك يلاحظ بان نشاطه الفني وعطائه الغنائي واللحني كان مزدهرا بتلك الفترتين وقد وصل فعلا الى قمته خلاليهما .

(4)
عطائه الفني


بدأ مشوار يحيى حمدي الفني في مجالي الغناء والتلحين في اواخر الاربعينات واستمر حتى مطلع السبعينات . لا يعني هذا بان عمله في المجال الفني كان محصورا فقط بتلك الفترة لانه استمر بعدها خلال عقدي السبعينات والثمانينات بالعمل بمؤسسة الاذاعة والتلفزيون العراقية كمخرج موسيقي وساهم من خلال هذه الوظيفة بأخراج عشرات الاعمال الفنية للوجود . في بداية احترافه وعطائه كان أسم الفنان يذاع على أنه (يحيى عبد القادر) وهو أسمه الحقيقي , وبقي لبضعة سنوات يسمى بهذا الاسم الا انه اتخذ بعد ذلك أسم جديد هو (يحيى حمدي) كاسم فني له . وخلال حوالي 25 سنة قدم يحيى حمدي عشرات الاغاني بصوته ولحن للكثير من المطربين والمطربات الذين ظهروا في تلك الفترة . كانت بداياته الغنائية كمغني هاوي يؤدي اغاني خفيفة للأطفال من خلال برنامج مخصص للصغار , ثم تطور اكثر فصار يغني الاغاني الوطنية فقدم بعض الاناشيد ذات العلاقة بنكبة فلسطين عام 1948 . وفي اواسط الخمسينات تم اعتماده كمطرب محترف في دار الاذاعة والتلفزيون فصار يغني الاغاني العاطفية التي راجت في حينها وذاعت شهرتها , خصوصا بعد الدخول بعصر التلفزيون الذي جعل منه وجها معروفا لدى الناس مما سبب له المتاعب بعمله في أمانة العاصمة كما أسلفنا . كان كل ما يؤديه بوقتها يقدم على الهواء مباشرة , ولم يقم بتسجيل اي اغنية على اسطوانات كما كان يفعل غيره من المطربين الشهيرين , لذلك ضاعت معظم نتاجاته بتلك الفترة وبعدها .

بدأت اغاني يحيى حمدي تحفظ في أرشيف الاذاعة والتلفزيون بعد أنتشار اجهزة تسجيل الصوت بالبكرات واسط الخمسينات فصار له منذ ذلك الوقت أرشيف غنائي محفوظ خاص به . ومن حسن الحظ انه اعتمد كمغني معتمد لدى دار الاذاعة والتلفزيون في نفس تلك الاثناء فصار كل ما يقدمه من اغاني والحان يوثق ويسجل لدى الذاعة . اما اغانيه التي كان يؤديها من على شاشة التلفزيون فقد ظلت تبث على الهواء مباشرة لأن التسجيل المرئي كان محصورا بالتصوير السينمائي لعدم وجود اجهزة تسجيل فيديوي في حينها ولم يكن ما يقدم من على شاشة التلفزيون يصور سينمائيا لارتفاع كلفة هذا النوع من التسجيل . ومنذ اواسط الخمسينات حتى اوائل السبعينات قدم يحيى حمدي عشرات الأغاني , سواء تلك التي غناها بنفسه او تلك التي لحنها للغير . ومع ذلك فقد اختفى جزء غير قليل من عطاء هذا الفنان لأسباب عديدة اولها هي ان عصره الذهبي كان في وقت شيوع التسجيل بالبكرات , وكانت المسجلات من هذا النوع ليست شائعة لدى العامة اضافة الى ارتفاع ثمن بكراتها مما جعل من امكانية تسجيل أغانيه من قبل الهواة محدودة . السبب الثاني هو ان عدد كبير من اغانيه , خصوصا في بداياته كان يقدم على الهواء وليس من خلال التسجيلات وهذا النوع من الغناء عادة ما يضيع من الزمن ويغيب عن الذاكرة , خصوصا اذا مر وقت طويل بعد أدائها . السبب الثالث والمهم هو النكسات التي تعرض لها ارشيف الاذاعة والتلفزيون العراقي سواء بالتغييب المتعمد الذي أمرت به السلطة خلال العهد السابق في محو ومسح كل التسجيلات التي سجلت في عقد الخمسينات وبداية الستينات لاسباب سياسية تتمحور في محاولة الغاء الاخر وطمس كل ملامح جوده . كما ان النكسة الكبرى التي تعرض لها ذلك الارشيف بعد عام 2003 والذي سرقت فيه معظم موجودات هذا الرشيف وضياع قسم كبير منه في خضم الفوضى التي شاعت بالبلد بتلك الفترة والتي لم يحدث مثيل لها في اي من بلدان العالم كان لها دورها في اختفاء كزء كبير من اعمال هذا الفنان . السبب الرابع والاخير هو ان الفنان يحيى حمدي كان تقريبا مهمشا ومهملا في معظم سنوات العهد السابق ولم تكن تذاع اي من اغانيه على قنوات الاذاعة او التلفزيون الا نادرا مما قلل كثيرا من فرص الهواة في تسجيل اغانيه بعد ان اصبح التسجيل سهلا ومتاحا لكل فرد تقريبا بعد انتشار الكاسيتات الصوتية والفيديوية .

ومن اغاني يحيى حمدي المحفوظة بالذاكرة والمنتشرة تسجيلاتها بالوقت الراهن :

لوم كلبي (قلبي) لوم
ما حبك ولا اريدك
منك انا بكل شهر
عروس الصباح
ديالوج مغرورة مع انصاف منير

كما ان هناك عدد اخر من الاغاني مختفي تماما لكنه بقي بذاكرة بعض من عايشوا فترة ازدهار عطاء الفنان يحيى حمدي مثل :

عيونك لوه وسحارة
افتكرج دوم يا امي
كولوا خير انشالله خير

وقد لحن الفنان يحيى حمدي لمطربين ومطربات اخرين , منهم المطربة المصرية (نرجس شوقي) التي كانت زوجة المطرب الشعبي المصري المعروف محمد عبدالمطلب وكانت تعيش في بغداد . لحن يحيى حمدي لنرجس شوقي عدة اغان منها (داده دسمعي داده) و (يا اسمراني ويامعجباني) و (تستاهلي ياعين) و (بالعشك اني ياخلك) وقصيدة (اسمعيني) شعر احمد شوقي . اما قصيدة (ياجيرة البان) وهي من شعر ابن معتوق وتسمى ايضا قصيدة (نهج البردة) والتي سبق وان قدمت الى الملحن المصري الشهير (مرسي الحريري) الذي كان يعيش في بغداد بوقتها الا انه اعتذر عن تلحينها لصعوبة بعض كلمات القصيدة في التلحين . وحين كلف يحيى حمدي بتلحينها استطاع ان يفعل ذلك خلال يوم واحد واتم اللحن وقام بتحفيظه لنرجس شوقي وهو كما هو عليه الان وكما تذاع . ومن الصعوبات التي كان يواجهها الفنان يحيى حمدي مع المطربة نرجس شوقي انها كانت لا تعرف القراءة والكتابة مما كان يصعب عليه تحفيظها ألألحان وكلمات الأغاني . كما لحن يحيى حمدي للمطرب فالح الجوهر عدة اغاني , ولحن الى المطرب عبد محمد اغنية شهيرة هي (وردة اسگيتها من دمع العيون) . كما لحن في حياته الفنية اكثر من اربعين قصيدة  منها قصيدة (نداء) وقصيدة (قولوا له) من شعر احمد شوقي . ولحن ايضا قصيدة للشاعر معروف الرصافي هي قصيدة(قبل الرحيل) وهي القصيدة الغزلية الوحيدة التي أداها وتقول كلماتها (اسمعي لي قبل الرحيل كلاما ودعيني اموت فيك غراما) .

ومنذ نهاية الستينات ومطلع عقد السبعينات اصبح يحيى حمدي اكثر ميلا لتلحين الاغاني للمطربين والمطربات بدلا من التلحين لنفسه , فقد لحن للمطرب  جاسم الخياط منها اغنية (هجرت الحب واسم الحب) واغنية (النظرة) . كما لحن ايضا لفالح الجوهر وجواد السعد وياس خضر . كذلك لحن يحيى حمدي اغاني للمطربة الكبيرة (انصاف منير) , وقد غنى معها (ديالوج كلام الناس) , وهي تعد من اروع الحواريات الغنائية . وقد قدم يحيى حمدي هذه الحوارية مع انضاف منير من على شاشة التلفزيون وعلى الهواء مباشرة , وللاسف لم تسجل لهما هذه الحوارية العاطفية التي ادياها بعذوبة واحساس عظيم . وكانت ليحيى حمدي ملاحظة على (انصاف منير) كان يقولها لأصدقائه ومعارفه بكونها غير جميلة لكن صوتها كان ساحرا ومؤثرا في النفس والوجدان . وقد دفعه هذا الراي لأن يلحن لها ديالوج اخر على نفس الطابع الاول ليتهادى لحنه الى الاسماع من خلال ذلك الصوت النسوي العذب والرخيم . وفي الثمانينات غنت المطربة أمل خضير عدة اغاني للفنان يحيى حمدي , منها اغنية (فدوة يا عزيز العين فدوة) واغنية (أني من يسأل عليه) وغيرها .
  
(5)
شخصيته




سنخصص هذه الحلقة من سلسلة المقالات عن الفنان يحيى حمدي في الغوص في اعماق شخصيته ومحاولة فهمها وتحليلها على ضوء المعلومات المتوفرة عنه . ولابد من الاشارة من البداية بأنه قد افادنا بهذا الجانب مشكورين شخصين عزيزين لا يدخران جهد في حفظ وتوثيق التراث الثقافي العربي بصورة عامة والعراقي بصورة خاصة هما الاخ الدكتور محمد العامري الذي استفدنا من خبرته الطبية بهذا المجال , والباحث التراثي الاخ الدكتور نعمان ذو الملاحظات القيمة والمفيدة بهذا النوع من البحوث .

عرفنا من الحلقات السابقة بان فناننا الكبير يحيى حمدي كان ذو شخصية انطوائية تميل الى الانزواء والاعتكاف . ان مثل هذه الشخصية لا تنشأ عادة الا من وجود معاناة نفسية كبيرة بمرحلة الطفولة تتجسد مظاهرها لاحقا بالعقد الثاني من العمر . وبالنسبة لحالة هذا الفنان فان السبب الاكيد وراء اتصافه بهذه الصفات يعود الى حالة فقدان الاب في مرحلة مبكرة من العمر ثم الانصراف الكبير الذي توجهت اليه الام بعدها في رعاية ولدها والاهتمام به . ينشأ الطفل في مثل هذه الظروف وهو فاقد لواحد من العاملين اللذين يحققان التوازن في الشخصية . أحد هذان العاملان هو الاب الذي يمثل القوة والرجولة والقدرة على مواجهة الصعاب وملاواة الحياة , والعامل الثاني هو الام التي تمثل حالة الحنان والاهتمام وتوفير مستلزمات النشوء . وبفقدان احد هذين العاملين تفقد عملية بناء الشخصية المتعافية من أحد مستلزماتها الضرورية للنشوء الصحيح , فتكون النتيجة نشوء شخصية مريضة يصعب عليها اتخاذ القرار وتميل الى الاتكال على الاخرين في عمل كل شيء لها بدلا من الاعتماد على النفس . كما ان مثل هذه الشخصية عادة ما تكون مرهفة وحساسة الى ابعد الحدود وتميل الى كتمان المعاناة واحتواء اي ألم داخليا بدلا من اطلاقه الى الخارج بشكل انفعالات مختلفة . وبالنسبة الى احوال مثل هذه الشخصية الاجتماعية نجد انها عادة ما تكون متحفظة تميل الى الفردية , اي تفضل الانزواء والتواجد مع عدد محدود من الاشخاص بدلا من الظهور والتفاعل مع التجمعات الكبيرة . اضافة الى ما تقدم نجد ان الشخصية الانطوائية تستمتع بشكل كبير بنشاطاتها الخاصة ولا تميل الى العمل الجماعي , كما انها تميل الى عمل اي شيء على حدة من الاعمال الاخرى , أي لا تحب أن تنفذ عدة أعمال متنوعة في آن . وتستمتع الشخصية الانطوائية بالتفاعل مع عدد محدود من الأصدقاء المقربين , كما ان وجودها يتضائل وحتى يضمحل حين تكون وسط مجموعة كبيرة من الناس .

من متابعة سيرة الفنان يحيى حمدي الاجتماعية والعملية يميل الاعتقاد الى ان شخصيته هي من نوع الشخصية الانطوائية  التي بينا مواصفاتها اعلاه , ويرجع هذا الرأي الى طبيعة الحياة التي عاشها في طفولته ومراهقته وشبابه . كما ان حساسيته المرهفة وانفعالاته التي سادت على حياته بعد حصول صدمتين عاطفيتين له , الاولى بفقدان امه والثانية بفشل قصة حبه الاولى تبين بوضوح انه كان ذا أحساس مرهف ومن النوع الذي يحب بعمق كبير ويرتبط عاطفيا وذهنيا بالاخرين بشكل يصعب فصمه . وعن حضوره الاجتماعي يحدثنا الدكتور العامري عن يحيى حمدي قائلأ " من خلال متابعة سيرة حياة الفنان والملحن الكبير يحيى حمدي يتوضح لنا ان هذا الفنان كان منطويا على نفسه ولايملك وجوداً اجتماعيا قويا بحيث تكون اخباره حاضرة على كل لسان في تلك الفترة . وقد سئلت الكثير من الاصدقاء ممن عاصروا تلك الفترة من تاريخ الاغنية العراقية وكذلك من العاملين في هذا المجال من موسيقيين او مطربين سابقين هاجروا من البلد لاسباب شتى فقد أجمع الجميع على انكفاء هذا الفنان العبقري على نفسه حتى في أوج عطائه الفني" .

ان هيئة الانسان وشكله لا تعبر بالضرورة عن نوع شخصيته , فكم من الاشخاص تبدوا عليهم ملامح قاسية تشير الى لميل الى العنف لكننا نجدهم من ابسط الناس ومن ذوي نفسيات عاطفية وحنونة ورحيمة الى ابعد الحدود . نفس الشيء يكاد ينطبف على فناننا الكبير يحيى حمدي الذي نضعه الان تحت المجهر محاولين فهم نوع شخصيته وتحليل دقائق تصرفاته واعماله خلال حياته . فيحيى حمدي ذو ملامح قاسية بعض الشيء حتى ان المرء يظن حين يلتقيه انه امام شخصية عدوانية لكننا نجده عاطفيا وذو احساس دقيق وعميق لا يتوفر بكثرة عند الناس . وعن هذا الامر يواصل صديقنا الدكتور العامري قائلا " لقد سهرت البارحة في تحليل وجه الفنان يحيى حمدي وكل ما كتب عنه فوجدت من خلال تقاطيع وجهه وجود ملامح الحزن العميق والكأبه الواضحة على محياه . وحتى من خلال تحليلي لشكل انفه الطويل والمستقيم , فالأنف الطويل ذو الشكل النحيف والمستقيم يوحي للأخرين بأن أصحابه يميلون إلى القسوة الظاهرية ولكنهم بالحقيقة عاطفيون يملكون بين جنباتهم قلباً حنوناً . انا اعتقد بأنه ومن خلال معاناته في بدايات حياته الفنية في منطقته الشعبية قد اصيب بنوع من النكوص الواضح الذي جعله يكون منطويا على نفسه بالعموم"  .

كانت حياة يحيى حمدي قاسية بعض الشيء , ففقدان الاب بمقتبل العمل له اثاره الضارة على حياة اي فرد , كما ان متاعبه بوظيفته حين كان يعمل بوظيفة مراقب في البلدية لابد وان تكون هي الاخرى قد سببت له متاعب نفسية زادت حتما من انطوائيته ومعاناته . تحدثنا الاخبار عن حياة هذا الفنان بان ألاطفال في الأحياء الذي كان يعمل بها كانوا يستهزئون به ويضحكون عليه على اساس انه مغني يظهر بالتلفزيون وبنفس الوقت يعمل بجمع الازبال والنفايات . ان هذا غير منطقي برأي الشخصي , فنحن نرى الكثير من الناس ممن يعملون بوظائف متدنية , بل وحتى حقيرة ولانجد من يضحك عليهم او يستهزيء بهم لا من الصغار ولا من الكبار . ان قيام الاطفال في الاحياء التي يعمل فيها بالضحك عليه والاستهزاء به لابد وان تكون له اسباب اخرى بعيدة عن الاسباب الظاهرية ذات العلاقة بطبيعة عمله , ان الامر حتما له علاقة بتصرفات الشخص نفسه وقوة شخصيته وقدرته على المواجهة . وعند التفكير العميق بهذه النقطة بالذات لابد وان التفكير سيقودنا الى ان هناك امر ما في طبيعة يحيى حمدي وربما ايضا في تصرفاته كان يقود الى مثل هذا الاستهزاء والضحك , وليس العمل نفسه . لابد وان تصرفات يحيى حمدي اثناء ممارسته لعمله كانت تدفع العاملين معه الى التندر والضحك عليه من خلال اطلاق الدعابات عنه , وربما كان هذا العامل احد الاشياء التي لاحظها الاطفال فيه فراحوا يقلدون هؤلاء العاملين . ان مثل هذه الحالة ليست غريبة ويمكن ملاحظتها بوضوح بين الاطفال والمراهقين بالمدارس الذين يوغلون بأذى اي فرد بينهم ذو تصرفات عريبة ولا يستطيع الدفاع عن نفسه ولا يقدر على المواجهة . قد يكون يحيى حمدي من هذا النوع من الاشخاص والذي ما ان يكتشفه الاخرين حتى يصبح بالنسبة لهم موضع للتندر والضحك والاستهزاء به لسبب او بدون سبب . ان هذا يؤشر على ان يحيى حمدي كان ذو شخصية ضعيفة لا تقدر على المواجهة حتى وان كان ما يجري يسيء اليها ويحط من قيمتها . ما يعزز رأينا بهذا ان الاخبار تقول لنا بانه كان يلجأ الى اسلوب الهرب والتواري عن موقع عمله ابتعادا عن من يهزأون به . هذا الهرب هو مؤشر اخر على مدى الضعف الذي كان يعاني منه في شخصيته والذي قاد بالاخير الى تركه لعمله في أمانة العاصمة والانتقال الى دار الاذاعة والتلفزيون . ان كل هذا يرتبط بالتأكيد بنوع الحياة التي عاشها يحيى حمدي , ولابد ان امه كانت تقوم مقامه بكل شيء وتعيش اي حدث يواجهه بالنيابة عنه فكان نتاج ذلك شخصية مهزوزة ضعيفة غير قادة على المواجهة ولا الحد من امتهانها  .

ان حوادث الاعتقال التي تعرض لها يحيى حمدي في حياته بعقدي الستينات والسبعينات لابد وان تكون هي الاخرى قد تركت اثارها الجسيمة على شخصيته وحياته . وعن هذا الموضوع يواصل الدكتور العامري حديثه فيقول " الفكرة الثانية التي تركزت في ذهني هي الحادثة التي جعلت منه معتقلاً سياسيا لفترة وجيزة ، حيث بالتأكيد ستكون لها عواقب وخيمة على شخصية اي فرد وتجعله سجينا لاضطرابات نفسية داخلية نادرا مايتخلص منها الفرد بسهولة وتبقى تطارده بصورة كوابيس مدى الحياة ان لم يتعالج منها ويكون اقوى منها كشخصية ، ومثل هذا الفعل لايتمكن جميع الناس من القيام به . قد تكون فكرة ان المجتمع الخاص بالفنان يحيى حمدي هي السبب اكثر تقبلاً لدى البعض وقد تكون الفكرة الثانية المتعلقة بالاعتقال هي السبب عند البعض ايضا ، ولكني في الحقيقة أميل الى دمج الموضوعين والفكرتين في بوتقة واحدة نستمد منها ان موضوع الانطواء والانكفاء عن المجتمع ماهو الا نتيجة حتمية لكلا الفكرتين في حياة يحيى حمدي . فمن حيث واقع النشئة وحسب ما أستنتجت فان يحيى حمدي قد فقد الاب وتمت تربيته من قبل والدته ، ونحن نعلم ان هذه الفكرة والى زمن ليس ببعيد هي فكرة غير مستساغة في مجتمعنا العراقي ، ويتم عادة الاستهزاء بمثل هولاء الاطفال من قبل زملائهم وخاصة في مرحلة المراهقة ، وقد شهدت مثل هذه الحالة اثناء الدراسة المتوسطة للاسف الشديد مع احد الزملاء الطيبين ، والذي الى الان حين يتم ذكره في ما بيننا نحن زملاء المرحلة المتوسطة والاعدادية يتم الاشارة له بصفة (أبن امه) للاسف .

تبين لنا مما تقدم بان يحيى حمدي كان صاحب شخصية انطوائية وانزوائية , لكن لم نعرف لحد الان طبيعة اخلاقه وتعاملاته مع الاخرين . من الوارد ان مثل هذه الشخصية عادة ما تكون شخصية محبة ومتسامحة وغير عدوانية بتصرفاتها . ان هذا كان امر معروف عن الفنان يحيى حمدي , ولم يشار قط الى اي أساءة سببها للأخرين او صدور تصرفات مؤذية منه تجاه أي شخص . كانت جميع تعاملاته سلسة كما كان خدوما وكريما يقدم اعماله للاخرين عن طيب خاطر دون ان يبغي منفعة او فائدة , لهذا فقد عاش يحيى حمدي فقيرا ومات فقيرا . وعن هذا الموضوع يحدثنا الباحث التراثي الصديق الدكتور نعمان فيقول " من خلال تصفحي لمسيرة الفنان الكبير يحيى حمدي وما كتب عنه توصلت الى تكوين فكرة عن الأخلاق التي كان يتمتع بها هذا الفنان المبدع والصفات الانسانية التي كان يمتاز فيها وكذلك الاستقلالية في اتخاذ القرارات. كان تعلقه الشديد بوالدته ، وكما اكد على ذلك اكثر من كاتب وشاهد ، يدل على الوفاء ويعطي صورة صادقه عن مشاعره وعواطفه وميوله في هذه الحياة . وبسبب هذا الحب والتعلق بقي الرجل اعزباً الى فترة متأخرة من العمر ، كما ان قلبه قد مال الى فتاة عراقية من الديانة اليهودية وهذا يبين مدى تفتحه على المجتمع واستقلاليته في اتخاذ القرارات رغم ان اصوله تنحدر من مدينة محافظة تكريت . لم يكن امامه من وسيلة للتعبير عن حبه وعواطفه (لأمه وحبيبته) الا من خلال الأغاني العاطفية الجميلة بكلماتها المعبرة والحانها الشجية وعبر صوته الحنون الذي يمزج ما بين الحنان والحزن والحسرة والألم . وعندما توفيت والدته شعر بالوحشة والوحدة القاتلة وأخذ يقدم أغاني حزينة جداً وفي مقدمتها أغنية (جينا وما لقينا) . ورغم الأجواء السياسية المشحونة في الستينات والسبعينات والمشوبه بالخوف والمخاطر من الانتماء الى التيار السياسي اليساري وبالذات الشيوعي او مصاحبة من يحملها ، فإن الفنان يحيى حمدي لم يتخلى عن اصحابه واصدقاءه من حملة تلك الافكار مما سبب له كثير من المشاكل وادى الى اعتقاله وتعذيبه . وهذا ان دل على شيء فانما يدل على معدنه النقي وسمو اخلاقه وصفاته الانسانية وإخلاصه لأصدقائه . اقول هذا وانا اعلم بالضبط ماذا يحدث لمن يصاحب حملة الافكار السياسية المتهمة بالمعارضة في تلك الحقبة من الزمن ، واعرف جيداً كيف ان معظم اصدقاء ومعارف حملة تلك الافكار "يتبخرون" وينفضون اياديهم من اصحابهم بين ليلة وضحاها بسبب الخوف ومن اجل تجنب المشاكل " .
الامر الاخير الذي يجب ان نفهمه هو ان الشخصية الانطوائية والأتكالية كثيرا ما تكون شخصية ذكية ومتميزة باعمالها ونتاجاتها والسبب بهذا يعود حتما الى ان طاقة الدماغ الذهنية تنصرف الى واقع تأملي يقود الى الابداع نتيجة للابتعاد عن مفردات الحياة العادية التي يعيشها كل انسان عادي . ان معظم العلماء والمخترعين ومن برزوا ونجحوا باعمالهم كانوا من ذوي هذا النوع من الشخصية . يبدوا ان الفنان يحيى حمدي كان لا يختلف عن هذه القاعدة فقد نجح نجاحا كبيرا في فنه وعطائه وبقدر ما تمكنه امكانياته الشخصية والمعرفية من ذلك . لقد كان يغني بصوت عذب وجميل وبقدرة بديعة بالرغم من انه لم يدخل اي معهد غنائي او موسيقي . كما كان يلحن بكفاءة وجمالية مبدعة بالرغم من كونه لا يجيد العزف على اي ألة موسيقية ولا يعرف حتى كتابة النوطة الموسيقية . كما كان يعرف المقامات الموسيقية ويبدع باختيارها وهو صاحب المعرفة المحدودة بالفن الموسيقي ودروبه . كل هذا برأي الخاص كان يرجع الى حسه المرهف وعاطفته الجياشة وحبه للناس والحياة رغم كل المتاعب والمصاعب التي عاشها بحياته . لقد كان يحيى حمدي بحق فنانا رائدا ومبدعا شهد له كل فناني عصره وسيشهد له ايضا تاريخ الفن العراقي بأنه كان أحد المتميزين والمبدعين بالغناء البغدادي الاصيل  .

وبرغم كل الصعوبات التي مرت في حياة الفنان يحيى حمدي بالعقدين الاولين من عمره الا انه استطاع بعد ان احترف الغناء والتلحين بان يتجاوز كل الصعوبات النفسية التي سببتها له طفولته وطبيعة عمله الاول كمراقب بالبلدية . فقد استطاع الفنان يحيى حمدي استطاع بعد هذا التحول من الانتصار على معظم ازماته النفسية التي تولدت بالعقدين الاولين من عمره فتعافت بعدها شخصيته وعادت اليه ثقته بنفسه ومضى بطريقه الجديد بكل ثقة واقتدار . ومما يؤكد هذه الحقيقة هي حادثة حصلت له حين جمعته احدى المناسبات بالمطرب رضا علي فقام احد المعجبين بهذا الفنان بالتعبير امامه عن حبه وعشقه لفنه واعجابه بألحانه واغانية ، ثم تحول الى الفنان يحيى حمدي الذي كان جالسا بالقرب منهما يستمع الى ذلك المديح وقال له "وانت ايضاً مطرب جيد وأغانيك جميلة " . ما كان من يحيى حمدي امام هذا الموقف الا ان ينتفض ويبدي امتعاضه من هذا التشبيه الهامشي فقال للمتحدث "انني لست (ايضاً) , فانا لا اشبه غيري ولي لوني واسلوبي الخاص" . هذه الحكاية تدلل بقدر كبير على ان الفنان يحيى حمدي قد صار واثقاً من نفسه ويعرف مكانته وامكانياته وأين تقف شخصيته الفنية وموقعها البارز في عالم الموسيقى والغناء .
   
(6)
خاتمة


في الحلقات السابقة عرفنا الكثير عن الفنان الكبير يحيى حمدي , سواء عن طفولته أو عن شبابه وحياته الاجتماعية وفنه واعماله وغير ذلك . وبعد كل ما عرفناه عنه يمكن الان ان نخرج بصورة واضحة عن هذا الفنان تمكننا من أجراء تقييم شامل لمسيرته ومكانته التي يستحقها ضمن تاريخ الاغنية البغدادية العريقة . فبرغم الطفولة المتعبة التي عاشها وحياته الصعبة بمقتبل عمره الا ان يحيى حمدي استطاع تجاوز كل تلك المتاعب والصعاب بالأخر وتمكن بأن يجد نفسه ويقتحم المجال الذي تتطلع اليه روحه وأن يمضي قدما في المسالك التي تظهر موهبته الفنية وتطلق عبقريته المبدعة . ان التحول من موظف بسيط يمارس حرفة متدنية صاحبها الكثير من المتاعب الى فنان مقتدر يغني ويلحن فيه الكثير من الشجاعة والكثير من الاقدام والطموح . فلولا هذه الشجاعة وهذا الطموح والرؤية الدقيقة للواقع الذي يحيط به وتقييمه الصحيح لأمكانياته ومقدراته لما استطاع ابدا ان يخلق في نفسه هذا التحول الذي فيه منعطف كبير بين ما كان عليه وما أصبح به لاحقا .

ومن بداياته لاحظ يحيى حمدي في نفسه انه بالواقع لا يجيد اية صنعة او وظيفة غير التلحين والغناء وكأنه قد خلق لذلك , لذلك فقد اتجه بقوة نحو هذا الخط من العمل ونجح فيه نجاحا باهرا . كأن هذا أت من شعوره بان لديه مواهب ممتازة يمكن ان تستثمر وتستغل من اجل تطوير الاغنية البغدادية وتوجيهها الى طريق جديد يغلب عليه طابع الحداثة ويعبر بصدق عن اخلاقيات وعاطفية الرجل البغدادي بتلك المرحلة . لذلك فقد أتجه بقوة وقوة كبيرة بهذا الاتجاه وعمل مع غيره من مغني مرحلة الخمسينات والستينات نحو التجديد واستطاعوا بنجاح نقل الاغنية البغدادية من نمطها القديم الذي كان شائعا ايام الاخوين صالح وداود الكويتي وزكية جورج وصديقة الملاية وغيرهم الى نمط حديث ينسجم مع الواقع الاجتماعي الجديد والألات الحديثة التي دخلت على الفرق الموسيقية . 

ومع ان يحيى حمدي عمل باخلاص على تطوير الاغنية البغدادية واخراج نوع جديد من الاغاني العاطفية يتسم بالعذوبة وصدق المشاعر والذي مكنته عليه قدراته الفنية وموهبته الفذة , الا ان الظروف العامة التي كانت تحيط به لم تساعده كثيرا فظل نجمه محدودا بسطوعه ولم يتخطى الخطوط المتعاقبة لكي يصل الى نجوم الخط الاول بالغناء والموسيقى بذلك العهد . السبب في هذا يعود الى تعاقب مختلف الانظمة التي حكمت العراق خلال عقود الخمسينات والستينات ثو السبعينات والتي كان يحيى حمدي كما يبدوا على تناقض مع خطوطها العامة . ادى هذا التناقض الى أبعاد يحيى حمدي عن مستوى الخط الاول في الفن الغنائي والموسيقي والتمثيلي في العراق انذاك وحشره بعيدا ليبقى على الهامش بالرغم من قدراته الفنية الممتازة . لم يكن بالحقيقة يحيى حمدي مختارا لهذه الاوضاع التي لم تخدمه لكن سوء حظه هو الذي جعلها تلتف حوله لتقيدها بخيوطها وتحبط اي خطوة يمكن ان يخطيها الى الامام . وقد وصف صديقنا العزيز الخبير التراثي (لؤي الصايم) سوء حظ الفنان العراقي يحيى حمدي وعدم وصوله الى النجومية وصفا رائعا حين قال "لم يحظ هذا الفنان بالبورباجندا المعهودة لأهل الطرب وإن كان يملك كل مقومات الفن من صوت شجي وقدرة على التلحين , وقلما يتواجد مطرب جيد يتقن التلحين بهذه الإجادة . بقي أن أقول أن دنيانا هي للمحظوظين وليست لذوي الكفاءة , وعندنا في مصر مثل شعبي شهير يقول (قيراط حظ ولا فدان شطارة) , وهو كلام ينطبق بكل جدارة وحق على فناننا الكبير (يحيى حمدي) .

تمر حاليا الأغنية البغدادية بحالة من النكوص والانحدار لا مثيل لها لاسباب عديدة لابد من التطرق اليها في نهاية هذا المبحث لنرى من خلاله كم ان الحاجة قائمة لفنانين من شاكلة يحيى حمدي يعيدون للفن البغدادي مكانته التي كان يشغلها بالسابق . فكما هو معروف ان مدينة بغداد قد شهدت هجرات متتالية من الأقوام التي كانت تعيش بجنوب العرق بأشكال متعددة ولاسباب مختلفة . ولعدة عقود ظلت التجمعات البشرية التي تكونت في بغداد نتيجة هذه الهجرات منزوية الى حد ما ومنغلقة على نفسها , لكن مثل هذا الحال لم يدم طويلا اذ سرعان ما تغلغلت تلك التجمعات وانتشرت في جميع مفاصل مدينة بغداد وتوطنت في كافة أحيائها ومناطقها . ليس في هذا ضير اذا كان الحال محصورا بهذا الشكل , لكن اشتعال النزاع الطائفي وشيوع اعمال التطهير العرقي والقتل والاختطاف والتهجير أثر الفوضى التي عمت بالبلد بعد عام 2003 , وبالذات بعد احداث عام 2006 الارهابية ادت الى هجرة اعداد كبيرة من سكان بغداد الاصليين , حتى ان المدينة فرغت من حوالي نصف سكانها القدامى . لم يسد الفراغ الذي حصل بالمدينة الا مزيد من انتشار الجموع التي هاجرت سابقا ومزيد من الهجرات الجديدة التي صارت تنزح الى بغداد من الجنوب بحثا عن فرص عمل وحياة افضل . أدى هذا الحال الى حدوث تغيير ديموغرافي كبير في تركيبة مدينة بغداد وبسرعة رهيبة وفقدت المدينة طابعها الاصلي , حتى ان اللهجة التي تسود بها بالوقت الحاضر هي غير اللهجة التي عاشت بها لمئات السنين . وكما تغيرت هوية مدينة بغداد فقد تغيرت فنونها ايضا وحل محلها فنون المناطق الجنوبية من العراق . بل بالواقع ان الفن اصلا قد انحسر بصورة عامة من البلد وتوارى عن الساحة سواء ان كان بغدادي او جنوبي وصار منعدم الوجود تقريبا لدوافع دينية وحل محله الاناشيد الدينية والترديدات الحسينية . ان هذه الاحوال مجتمعة جعلت من الفن البغدادي الاصيل يحتضر , وهو على وشك الانقراض مالم يحدث تغيير يمكن ان يعيد الأحوال الى توازنها السابق .
 
ان احتفائنا اليوم بالفنان (يحيى حمدي) من على صفحات منتدى أيامنا لم يكن محض صدفة , واختيارنا لهذه الاحتفالية الشعار التالي كعنوان لها "يحيى حمدي صوت بغدادي أصيل وجميل كم نحن بحاجة لمثله للحفاظ على التراث البغدادي المهدد بالانقراض" لم يكن اعتباطيا بل هو أت من شعورنا العام بان الاغنية البغدادية هي بطور الزوال وستنقرض تماما خلال مدة لا تتجاوز عشرة او عشرين عاما , خصوصا بعد رحيل من عايشوها ويتذكرونها . ان الحاجة تدعوا الى القيام بكل الجهود الممكنة لأحياء هذا النوع من الفن العراقي والتذكير به باستمرار ونشر الاغنية البغدادية على جميع المستويات والاصعدة وتركيز الجهود من قبل كافة المواقع الثقافية بهذا الاتجاه . كما ان من المطلوب تشجيع الاصوات البغدادية الشابة الجديدة , سواء الرجالية او النسائية التي يمكن ان تسطع بالغناء البغدادي من جديد ورعايتها لكي تأخذ مكانتها اللائقة لكي تنتعش جذور الأغنية البغدادية الاصيلة من جديد وتعود الحياة في اغصانها واوراقها . وختاما لا يسعنا سوى ان نترحم على روح فناننا الجليل (يحيى حمدي) وان نذكره بكل خير متمنين ان نكون قد وفينا حقه وأحيينا ذكره بما يستحق ويليق به , والله الموفق  .

-        انتهى -










هناك تعليقان (2) :

غير معرف يقول...

من هو كاتب كلمات يا اسمراني يا معجباني؟

غير معرف يقول...

اعتقد له اغنية لم تذكر سمعتها بالراديو عام ١٩٨٤ تقل"يالله على شاطينا دجلة ومايها يروينا ياخذنا شرجي ويذبنا غربي .. وغير موجودة ما اعرف ليش